فصل: كِتَابُ الصَّوْمِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.كِتَابُ الصَّوْمِ:

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ (الصَّوْمُ ضَرْبَانِ: وَاجِبٌ وَنَفْلٌ، وَالْوَاجِبُ ضَرْبَانِ: مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَانٍ بِعَيْنِهِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُعَيَّنِ فَيَجُوزُ صَوْمُهُ بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ حَتَّى أَصْبَحَ أَجْزَأَهُ النِّيَّةُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّوَالِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِيهِ. اعْلَمْ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ فَرِيضَةٌ لِقولهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ} وَعَلَى فَرْضِيَّتِهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ وَلِهَذَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ، وَالْمَنْذُورُ وَاجِبٌ لِقولهِ تَعَالَى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} وَسَبَبُ الْأَوَّلِ الشَّهْرُ وَلِهَذَا يُضَافُ إلَيْهِ وَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ وَكُلُّ يَوْمٍ سَبَبٌ لِوُجُوبِ صَوْمِهِ، وَسَبَبُ الثَّانِي النَّذْرُ.
الشَّرْحُ:
كِتَابُ الصَّوْمِ:
هَذَا ثَالِثُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، شَرَعَهُ سُبْحَانَهُ لِفَوَائِدَ أَعْظَمُهَا كَوْنُهُ مُوجِبًا شَيْئَيْنِ: أَحَدَهُمَا عَنْ الْآخَرِ سُكُونَ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ، وَكَسْرَ سَوْرَتِهَا فِي الْفُضُولِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِجَمِيعِ الْجَوَارِحِ مِنْ الْعَيْنِ وَاللِّسَانِ وَالْأُذُنِ وَالْفَرْجِ، فَإِنَّ بِهِ تَضْعُفُ حَرَكَتُهَا فِي مَحْسُوسَاتِهَا، وَلِذَا قِيلَ: إذَا جَاعَتْ النَّفْسُ شَبِعَتْ جَمِيعُ الْأَعْضَاءِ وَإِذَا شَبِعَتْ جَاعَتْ كُلُّهَا، وَمَا عَنْ هَذَا صَفَاءُ الْقَلْبِ مِنْ الْكَدَرِ، فَإِنَّ الْمُوجِبَ لِكُدُورَاتِهِ فُضُولُ اللِّسَانِ وَالْعَيْنِ وَبَاقِيهَا، وَبِصَفَائِهِ تُنَاطُ الْمَصَالِحُ وَالدَّرَجَاتُ، وَمِنْهَا: كَوْنُهُ مُوجِبًا لِلرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَإِنَّهُ لَمَّا ذَاقَ أَلَمَ الْجُوعِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ذَكَرَ مَنْ هَذَا فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ فَتُسَارِعُ إلَيْهِ الرِّقَّةُ عَلَيْهِ، وَالرَّحْمَةُ حَقِيقَتُهَا فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ نَوْعُ أَلَمٍ بَاطِنٍ فَيُسَارِعُ لِدَفْعِهِ عَنْهُ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِ فَيَنَالُ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حُسْنِ الْجَزَاءِ. وَمِنْهَا مُوَافَقَةُ الْفُقَرَاءِ بِتَحَمُّلِ مَا يَتَحَمَّلُونَ أَحْيَانًا وَفِي ذَلِكَ رَفْعُ حَالِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا حَكَى بِشْرٌ الْحَافِيُّ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فِي الشِّتَاءِ فَوَجَدَهُ جَالِسًا يَرْعُدُ وَثَوْبُهُ مُعَلَّقٌ عَلَى الْمِشْجَبِ. فَقَالَ لَهُ: فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ يُنْزَعُ الثَّوْبُ؟ وَمَعْنَاهُ، فَقَالَ: يَا أَخِي الْفُقَرَاءُ كَثِيرٌ، وَلَيْسَ لِي طَاقَةُ مُوَاسَاتِهِمْ بِالثِّيَابِ فَأُوَاسِيهِمْ بِتَحَمُّلِ الْبَرْدِ كَمَا يَتَحَمَّلُونَ. وَالصَّوْمُ لُغَةً: الْإِمْسَاكُ مُطْلَقًا، صَامَ عَنْ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ** تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُك اللُّجُمَا

وَفِي الشَّرْعِ: إمْسَاكٌ عَنْ الْجِمَاعِ، وَعَنْ إدْخَالِ شَيْءٍ بَطْنًا لَهُ حُكْمُ الْبَاطِنِ مِنْ الْفَجْرِ إلَى الْغُرُوبِ عَنْ نِيَّةٍ، وَذَكَرْنَا الْبَطْنَ وَوَصَفْنَاهُ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْصَلَ إلَى بَاطِنِ دِمَاغِهِ شَيْئًا فَسَدَ وَإِلَى بَاطِنِ فَمِهِ وَأَنْفِهِ لَا يَفْسُدُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي تَعْرِيفِ الْقُدُورِيِّ، وَذَلِكَ الْإِمْسَاكُ رُكْنُهُ وَسَبَبُهُ مُخْتَلِفٌ، فَفِي الْمَنْذُورِ النَّذْرُ، وَلِذَا قُلْنَا: لَوْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ كَرَجَبٍ، أَوْ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ، فَصَامَ عَنْهُ جُمَادَى وَيَوْمًا آخَرَ أَجْزَأَ عَنْ الْمَنْذُورِ، لِأَنَّهُ تَعْجِيلٌ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ وَيَلْغُو تَعْيِينُ الْيَوْمِ لِأَنَّ صِحَّةَ النَّذْرِ وَلُزُومَهُ عَمَّا بِهِ يَكُونُ الْمَنْذُورُ عِبَادَةً إذْ لَا نَذْرَ بِغَيْرِهَا، وَالْمُتَحَقِّقُ لِذَلِكَ الصَّوْمُ لَا خُصُوصُ الزَّمَانِ وَلَا بِاعْتِبَارِهِ، وَسَبَبُ صَوْمِ الْكَفَّارَاتِ أَسْبَابُهَا مِنْ الْحِنْثِ وَالْقَتْلِ، وَسَبَبُ الْقَضَاءِ هُوَ سَبَبُ وُجُودِ الْأَدَاءِ، وَسَبَبُ رَمَضَانَ شُهُودُ جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ لَيْلِهِ أَوْ نَهَارِهِ، وَكُلُّ يَوْمٍ سَبَبُ وُجُوبِ أَدَائِهِ لِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ كَتَفَرُّقِ الصَّلَوَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ، بَلْ أَشَدُّ لِتَخَلُّلِ زَمَانٍ لَا يَصْلُحُ لِلصَّوْمِ وَهُوَ اللَّيْلُ، وَجَمَعَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ فَشُهُودُ جُزْءٍ مِنْهُ سَبَبٌ لِكُلِّهِ ثُمَّ كُلُّ يَوْمٍ سَبَبٌ لِصَوْمِهِ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ تَكَرَّرَ سَبَبُ وُجُوبِ صَوْمِ الْيَوْمِ بِاعْتِبَارِ خُصُوصِهِ وَدُخُولِهِ فِي ضِمْنِ غَيْرِهِ، وَشَرْطُ وُجُوبِهِ الْإِسْلَامُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ. وَشَرْطُ وُجُوبِ أَدَائِهِ: الصِّحَّةُ، وَالْإِقَامَةُ. وَشَرْطُ صِحَّتِهِ: الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَالنِّيَّةُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ فِي الشُّرُوطِ: الْعِلْمُ بِالْوُجُوبِ، أَوْ الْكَوْنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَيُرَادُ بِالْعِلْمِ الْإِدْرَاكُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ عَلَيْهِ صَوْمَ رَمَضَانَ ثُمَّ عَلِمَ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ الْمُوجِبُ بِإِخْبَارِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ وَاحِدٍ عَدْلٍ وَعِنْدَهُمَا لَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ وَلَا الْبُلُوغُ وَلَا الْحُرِّيَّةُ، وَلَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ عَلِمَ بِالْوُجُوبِ أَوْ لَا، وَحُكْمُهُ سُقُوطُ الْوَاجِبِ، وَنَيْلُ ثَوَابِهِ، وَإِنْ كَانَ صَوْمًا لَازِمًا وَإِلَّا فَالثَّانِي. وَأَقْسَامُهُ: فَرْضٌ، وَوَاجِبٌ، وَمَسْنُونٌ، وَمَنْدُوبٌ، وَنَفْلٌ، وَمَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا وَتَحْرِيمًا. فَالْأَوَّلُ رَمَضَانُ، وَقَضَاؤُهُ، وَالْكَفَّارَاتُ لِلظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَالْيَمِينِ، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ، وَفِدْيَةِ الْأَذَى فِي الْإِحْرَامِ لِثُبُوتِ هَذِهِ بِالْقَاطِعِ سَنَدًا وَمَتْنًا وَالْإِجْمَاعِ عَلَيْهَا. وَالْوَاجِبُ: الْمَنْذُورُ وَالْمَسْنُونُ عَاشُورَاءَ مَعَ التَّاسِعِ، وَالْمَنْدُوبُ: صَوْمُ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَيَنْدُبُ فِيهَا كَوْنُهَا الْأَيَّامَ الْبِيضَ، وَكُلُّ صَوْمٍ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ طَلَبُهُ وَالْوَعْدُ عَلَيْهِ كَصَوْمِ دَاوُد عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَنَحْوِهِ. وَالنَّفَلُ: مَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا لَمْ تَثْبُتْ كَرَاهَتُهُ. وَالْمَكْرُوهُ تَنْزِيهًا: عَاشُورَاءُ مُفْرَدًا عَنْ التَّاسِعِ وَنَحْوَ يَوْمِ الْمِهْرَجَانِ. وَتَحْرِيمًا: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَالْعِيدَيْنِ، وَسَنَعْقِدُ بِذَيْلِ هَذَا الْبَابِ فُرُوعًا لِتَفْصِيلِ هَذِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ كَانَ الْمَنْذُورُ وَاجِبًا مَعَ أَنَّ ثُبُوتَهُ بِقولهِ تَعَالَى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}؟ أُجِيبُ: بِأَنَّهُ عَامٌّ دَخَلَهُ الْخُصُوصُ فَإِنَّهُ خَصَّ النَّذْرَ بِالْمَعْصِيَةِ وَبِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ كَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، أَوْ كَانَ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِنَفْسِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ حَتَّى لَوْ نَذَرَ الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلَاةٍ لَمْ يَلْزَمْ فَصَارَتْ ظَنِّيَّةً كَالْآيَةِ الْمُؤَوَّلَةِ فَيُفِيدُ الْوُجُوبَ، وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا شُرُوطُ لُزُومِ النَّذْرِ وَهِيَ: كَوْنُ الْمَنْذُورِ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ لَا لِغَيْرِهِ، عَلَى هَذَا تَضَافَرَتْ كَلِمَاتُ الْأَصْحَابِ، فَقول صَاحِبِ الْمَجْمَعِ تَبَعًا لِصَاحِبِ الْبَدَائِعِ: يُفْتَرَضُ صَوْمُ رَمَضَانَ وَصَوْمُ الْمَنْذُورِ وَالْكَفَّارَةِ عَلَى غَيْرِ مَا يَنْبَغِي عَلَى هَذَا لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ فَرْضٌ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى لُزُومِهِ.

متن الهداية:
وَالنِّيَّةُ مِنْ شَرْطِهِ وَسَنُبَيِّنُهُ وَتَفْسِيرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَجْهُ قولهِ فِي الْخِلَافِيَّةِ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» وَلِأَنَّهُ لَمَّا فَسَدَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ لِفَقْدِ النِّيَّةِ فَسَدَ الثَّانِي ضَرُورَةً أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ بِخِلَافِ النَّفْلِ لِأَنَّهُ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ. وَلَنَا قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا شَهِدَ الْأَعْرَابِيُّ بِرُؤْيَةِ الْهِلَال: «أَلَا مَنْ أَكَلَ فَلَا يَأْكُلَنَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ» وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ، أَوْ مَعْنَاهُ لَمْ يَنْوِ أَنَّهُ صَوْمٌ مِنْ اللَّيْلِ، وَلِأَنَّهُ يَوْمُ صَوْمٍ فَيَتَوَقَّفُ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِهِ عَلَى النِّيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِأَكْثَرِهِ كَالنَّفْلِ، وَهَذَا لِأَنَّ الصَّوْمَ رُكْنٌ وَاحِدٌ مُمْتَدٌّ وَالنِّيَّةُ لِتَعْيِينِهِ لِلَّهِ تَعَالَى فَتَتَرَجَّحُ بِالْكَثْرَةِ جَنْبَةُ الْوُجُودِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ لِأَنَّ لَهُمَا أَرْكَانًا فَيُشْتَرَطُ قِرَانُهَا بِالْعَقْدِ عَلَى أَدَائِهِمَا، وَبِخِلَافِ الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ النَّفَلُ وَبِخِلَافِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ اقْتِرَانُهَا بِالْأَكْثَرِ فَتَرَجَّحَتْ جَنْبَةُ الْفَوَاتِ، ثُمَّ قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ: مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّوَالِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ النِّيَّةِ فِي أَكْثَرِ النَّهَارِ وَنِصْفِهِ مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى وَقْتِ الضَّحْوَةِ الْكُبْرَى لَا إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ، فَتُشْتَرَطُ النِّيَّةُ قَبْلَهَا لِتَتَحَقَّقَ فِي الْأَكْثَرِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِأَنَّهُ لَا تَفْصِيلَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الصَّوْمِ يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ وَبِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي نِيَّةِ النَّفْلِ عَابِثٌ، وَفِي مُطْلَقِهَا لَهُ قولانِ: لِأَنَّهُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ مُعْرِضٌ عَنْ الْفَرْضِ فَلَا يَكُونُ لَهُ الْفَرْضُ. وَلَنَا أَنَّ الْفَرْضَ مُتَعَيَّنٌ فِيهِ، فَيُصَابُ بِأَصْلِ النِّيَّةِ كَالْمُتَوَحِّدِ فِي الدَّارِ يُصَابُ بِاسْمِ جِنْسِهِ، وَإِذَا نَوَى النَّفَلَ أَوْ وَاجِبًا آخَرَ فَقَدْ نَوَى أَصْلَ الصَّوْمِ وَزِيَادَةَ جِهَةٍ، وَقَدْ لَغَتْ الْجِهَةُ فَبَقِيَ الْأَصْلُ وَهُوَ كَافٍ.
الشَّرْحُ:
وَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ فِي الْكُلِّ وَالْكَلَامِ فِي وَقْتِهَا الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ فَقُلْنَا فِي رَمَضَانَ وَالْمَنْذُورِ الْمُعَيَّنِ وَالنَّفَلِ تَجْزِيهِ النِّيَّةُ مِنْ بَعْدِ الْغُرُوبِ إلَى مَا قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ فِي صَوْمِ ذَلِكَ النَّهَارِ وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَالْمَنْذُورِ الْمُطْلَقِ كَنَذْرِ صَوْمِ يَوْمٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا فِي اللَّيْلِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجْزِي فِي غَيْرِ النَّفْلِ إلَّا مِنْ اللَّيْلِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَجْزِي إلَّا مِنْ اللَّيْلِ فِي النَّفْلِ وَغَيْرِهِ. وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ خِلَافَ الشَّافِعِيِّ. (وَقولهُ وَجْهٌ فِي الْخِلَافِيَّةِ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا صِيَامَ لِمَنْ إلَخْ) اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ وَالْمَعْنَى. أَمَّا الْحَدِيثُ فَمَا ذَكَرَهُ رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي لَفْظِه: «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» يُجْمَعُ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ يُبَيِّتْ «وَلَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَفْرِضْهُ مِنْ اللَّيْلِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَاخْتَلَفُوا فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَلَمْ يَرْوِهِ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ إلَّا مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ زَوْجَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى وَقْفِهِ، وَقَدْ رَفَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ يَبْلُغُ بِهِ حَفْصَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَجْمَعْ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ» وَوَقَفَهُ عَنْهُ عَلَى حَفْصَةَ مَعْمَرٌ وَالزُّبَيْرِيُّ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَيُونُسُ الْأَيْلِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ثِقَةٌ، وَالرَّفْعُ زِيَادَةٌ وَهِيَ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَلَفْظُ «يُبَيِّتْ» عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «مَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ». قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّادٍ عَنْ الْفَضْلِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، وَأَقَرَّهُ الْبَيْهَقِيُّ عَلَيْهِ. وَنَظَرَ فِيهِ: بِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّادٍ غَيْرُ مَشْهُورٍ وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَهُوَ مِنْ رِجَالِهِ.
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّادٍ الْبَصْرِيُّ يُقَلِّبُ الْأَخْبَارَ. قَالَ: رَوَى عَنْهُ رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ نُسْخَةً مَوْضُوعَةً، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ قولهُ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا فَسَدَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ لِفَقْدِ النِّيَّةِ فِيهِ إذْ الْفَرْضُ اشْتِرَاطُهَا فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ، وَلَمْ تُوجَدْ فِي الْأَجْزَاءِ الْأُوَلِ مِنْ النَّهَارِ فَسَدَ الْبَاقِي، وَإِنْ وُجِدَتْ النِّيَّةُ فِيهِ ضَرُورَةُ عَدَمِ انْقِلَابِ الْفَاسِدِ صَحِيحًا، وَعَدَمُ تَجَزِّي الصَّوْمِ صِحَّةً وَفَسَادًا، لَا يُقَالُ لِمَا لَمْ يَتَجَزَّأْ صِحَّةً وَفَسَادًا وَقَدْ صَحَّ مَا اُقْتُرِنَ بِالنِّيَّةِ صَحَّ الْكُلُّ ضَرُورَةً ذَاكَ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مُقَدَّمٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّفْلِ لِأَنَّهُ مُنَجَّزٌ عِنْدِي لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى النَّشَاطِ وَقَدْ يَنْشَطُ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ، أَوْ نَقول: تَتَوَقَّفُ الْإِمْسَاكَاتُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ عَلَى وُجُودِ النِّيَّةِ فِي بَاقِيهِ فِي النَّفْلِ اعْتِبَارًا لَهُ أَخَفُّ حَالًا مِنْ الْفَرْضِ، حَتَّى جَازَتْ صَلَاتُهُ قَاعِدًا وَرَاكِبًا غَيْرَ مُسْتَقْبِلٍ الْقِبْلَةَ، بِخِلَافِ الْفَرْضِ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ «عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ فَقُلْنَا: لَا، فَقَالَ: إنِّي إذًا صَائِمٌ، ثُمَّ أَتَى يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَقَالَ: أَرِنِيهِ فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا فَأَكَلَ».
قولهُ: (وَلَنَا) حَاصِلُ اسْتِدْلَالِهِ بِالنَّصِّ وَالْقِيَاسِ عَلَى النَّفْلِ ثُمَّ تَأْوِيلِ مَرْوِيِّهِ بِدَلِيلٍ يُوجِبُ ذَلِكَ، أَمَّا النَّصُّ فَمَا ذَكَرَهُ وَهُوَ مُسْتَغْرَبٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ بَلْ الْمَعْرُوفُ أَنَّه: «شَهِدَ عِنْدَهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَأَمَرَ أَنْ يُنَادَى فِي النَّاسِ أَنْ يَصُومُوا غَدًا» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ فِيهِ، وَمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنِّي رَأَيْت الْهِلَالَ قَالَ الْحَسَنُ فِي حَدِيثِهِ يَعْنِي رَمَضَانَ فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَا بِلَالُ أَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا» مُحْتَمَلٌ لِكَوْنِهِ شَهِدَ فِي النَّهَارِ أَوْ اللَّيْلِ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَاسْتَدَلَّ الطَّحَاوِيُّ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ». فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَمْرَ إيجَابٍ قَبْلَ نَسْخِهِ بِرَمَضَانَ، إذْ لَا يُؤْمَرُ مَنْ أَكَلَ بِإِمْسَاكِ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ إلَّا فِي يَوْمٍ مَفْرُوضِ الصَّوْمِ بِعَيْنِهِ ابْتِدَاءً، بِخِلَافِ قَضَاءِ رَمَضَانَ إذَا أَفْطَرَ فِيهِ فَعَلِمَ أَنَّ مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ وَلَمْ يَنْوِهِ لَيْلًا أَنَّهُ يَجْزِيهِ نِيَّتُهُ نَهَارًا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ عَاشُورَاءَ كَانَ وَاجِبًا، وَقَدْ مَنَعَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقول: «هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْنَا صِيَامُهُ فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَصُومَ فَلْيَصُمْ فَإِنِّي صَائِمٌ فَصَامَ النَّاسُ» قَالَ: وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ مَنْ أَكَلَ بِالْقَضَاءِ، وَيُدْفَعُ بِأَنَّ مُعَاوِيَةَ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ فَإِنْ كَانَ سَمِعَ هَذَا بَعْدَ إسْلَامِهِ فَإِنَّمَا يَكُونُ سَمِعَهُ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ نَسْخِهِ بِإِيجَابِ رَمَضَانَ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى لَمْ يُفْرَضْ بَعْدَ إيجَابِ رَمَضَانَ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَدِلَّةِ الصَّرِيحَةِ فِي وُجُوبِهِ أَيْ فَرِيضَتِهِ، وَإِنْ كَانَ سَمِعَهُ قَبْلَهُ فَيَجُوزُ كَوْنُهُ قَبْلَ افْتِرَاضِهِ، وَنَسَخَ عَاشُورَاءَ رَمَضَانُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا يَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ قَالَ: مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» وَكَوْنُ لَفْظِ «أَمَرَ» مُشْتَرَكًا بَيْنَ الصِّيغَةِ الطَّالِبَةِ نَدْبًا وَإِيجَابًا مَمْنُوعٌ، وَلَوْ سُلِّمَ فَقولهَا: فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ قَالَ: مَنْ شَاءَ إلَخْ: دَلِيلٌ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي الصِّيغَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ التَّخْيِيرَ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ النَّدْبِ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَى الْآنِ بَلْ مَسْنُونٌ فَكَانَ بِاعْتِبَارِ الْوُجُوبِ، وَكَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، وَأَمْرُهُ مَنْ أَكَلَ بِالْإِمْسَاكِ فَثَبَتَ أَنَّ الِافْتِرَاضَ لَا يَمْنَعُ اعْتِبَارَ النِّيَّةِ مُجْزِئَةً مِنْ النَّهَارِ شَرْعًا. وَيَلْزَمُهُ عَدَمُ الْحُكْمِ بِفَسَادِ الْجُزْءِ الَّذِي لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مِنْ الشَّارِعِ، بَلْ اعْتِبَارُهُ مَوْقُوفًا إلَى أَنْ يَظْهَرَ الْحَالُ مِنْ وُجُودِهَا بَعْدَهُ أَوَّلًا فَإِذَا وُجِدَتْ ظَهَرَ اعْتِبَارُهُ عِبَادَةً لَا أَنَّهُ انْقَلَبَ صَحِيحًا بَعْدَ الْحُكْمِ بِالْفَسَادِ فَبَطَلَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي عَيَّنَهُ لِقِيَامِ مَا رَوَيْنَاهُ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ شَرْعًا، ثُمَّ يَجِبُ تَقْدِيمُ مَا رَوَيْنَاهُ عَلَى مَرْوِيِّهِ لِقُوَّةِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا رَوَاهُ بَعْدَ نَقْلِنَا فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي صِحَّةِ رَفْعِهِ فَيَلْزَمُ، إذْ قُدِّمَ كَوْنُ الْمُرَادِ بِهِ نَفْيَ الْكَمَالِ كَمَا فِي أَمْثَالِهِ مِنْ نَحْوِ: لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ وَغَيْرُهُ كَثِيرٌ، أَوْ الْمُرَادُ لَمْ يَنْوِ كَوْنَ الصَّوْمِ مِنْ اللَّيْلِ فَيَكُونُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ وَهُوَ مِنْ اللَّيْلِ مُتَعَلِّقًا بِصِيَامِ الثَّانِي لَا: بيَنْوِ. أَوْ يَجْمَعُ فَحَاصِلُهُ: لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَقْصِدْ أَنَّهُ صَائِمٌ مِنْ اللَّيْلِ أَيْ مِنْ آخِرِ أَجْزَائِهِ فَيَكُونُ نَفْيًا لِصِحَّةِ الصَّوْمِ مِنْ حِينِ نَوَى مِنْ النَّهَارِ كَمَا قَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ. وَلَوْ تَنَزَّلْنَا إلَى صِحَّتِهِ وَكَوْنِهِ لِنَفْيِ الصِّحَّةِ وَجَبَ أَنْ يَخُصَّ عُمُومَهُ بِمَا رَوَيْنَاهُ عِنْدَهُمْ مُطْلَقًا وَعِنْدَنَا لَوْ كَانَ قَطْعِيًّا خَصَّ بَعْضَهُ خُصِّصَ بِهِ، فَكَيْفَ وَقَدْ اجْتَمَعَ فِيهِ الظَّنِّيَّةُ وَالتَّخْصِيصُ: إذْ قَدْ خَصَّ مِنْهُ النَّفَلَ وَيَخُصُّ أَيْضًا بِالْقِيَاسِ، ثُمَّ الْكَلَامُ فِي تَعْيِينِ أَصْلِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ فَجَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ النَّفَلَ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ التَّخْفِيفِ فِي النَّفْلِ بِذَلِكَ ثُبُوتُ مِثْلِهِ فِي الْفَرْضِ، أَلَا يَرَى إلَى جَوَازِ النَّافِلَةِ جَالِسًا بِلَا عُذْرٍ، وَعَلَى الدَّابَّةِ بِلَا عُذْرٍ مَعَ عَدَمِهِ فِي الْفَرْضِ، وَالْحَقُّ أَنَّ صِحَّتَهُ فَرْعُ ذَلِكَ النَّصِّ، فَإِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ جَوَازُ الصَّوْمِ فِي الْوَاجِبِ الْمُعَيَّنِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ عَلِمَ عَدَمَ اعْتِبَارِ فَرْقٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّفْلِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَالْقِيَاسُ الَّذِي لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ قِيَاسُ النِّيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَلَى الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ أَوَّلِ الْغُرُوبِ بِجَامِعِ التَّيْسِيرِ وَدَفْعِ الْحَرَجِ بَيَانُهُ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ النِّيَّةَ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالْمُقَارَنَةِ أَوْ مُقَدَّمَةً مَعَ عَدَمِ اعْتِرَاضِ مَا يُنَافِي الْمَنْوِيَّ بَعْدَهَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ اعْتِبَارَهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَجِبْ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إلَّا الْمُقَارَنَةُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ لَوْ نَوَى عِنْدَ الْغُرُوبِ أَجْزَأَهُ، وَلَا عَدَمُ تَخَلُّلِ الْمُنَافِي لِجَوَازِ الصَّوْمِ بِنِيَّةٍ يَتَخَلَّلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ مَعَ انْتِفَاءِ حُضُورِهَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَى انْقِضَاءِ يَوْمِ الصَّوْمِ، وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ صَحَّتْ الْمُتَقَدِّمَةُ لِذَلِكَ التَّيْسِيرِ وَدَفْعِ الْحَرَجِ اللَّازِمِ لَوْ أَلْزَمَ أَحَدُهُمَا. وَهَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي تَجْوِيزَهَا مِنْ النَّهَارِ لِلُزُومِ الْحَرَجِ لَوْ أُلْزِمَتْ مِنْ اللَّيْلِ فِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ كَاَلَّذِي نَسِيَهَا لَيْلًا، وَفِي حَائِضٍ طَهُرَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ وَلَمْ تَعْلَمْ إلَّا بَعْدَهُ، وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا، فَإِنَّ عَادَتَهُنَّ وَضْعُ الْكُرْسُفِ عِشَاءً ثُمَّ النَّوْمُ، ثُمَّ رَفْعُهُ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَفْعَلُ كَذَا تُصْبِحُ فَتَرَى الطُّهْرَ وَهُوَ مَحْكُومٌ بِثُبُوتِهِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَلِذَا تَلْزَمُهَا بِصَلَاةِ الْعِشَاءِ وَفِي صَبِيٍّ بَلَغَ بَعْدَهُ وَمُسَافِرٍ أَقَامَ وَكَافِرٍ أَسْلَمَ فَيَجِبُ الْقول بِصِحَّتِهَا نَهَارًا، وَتَوَهَّمَ أَنَّ مُقْتَضَاهُ قَصْرُ الْجَوَازِ عَلَى هَؤُلَاءِ أَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُكْثِرُونَ كَثْرَةَ غَيْرِهِمْ بَعِيدٌ عَنْ النَّظَرِ إذْ لَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ كَمِّيَّةِ الْمَنَاطِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، فَلَا يَلْزَمُ ثُبُوتُ الْحَرَجِ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ الْمُتَأَخِّرَةُ بِقَدْرِ ثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ الْمُتَقَدِّمَةُ بَلْ يَكْفِي ثُبُوتُهُ فِي جِنْسِ الصَّائِمِينَ، وَكَيْفَ وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ الْمُصَحِّحُ الْحَرَجَ الزَّائِدَ وَلَا ثُبُوتَهُ فِي أَكْثَرِ الصَّائِمِينَ فِي الْأَصْلِ، فَكَذَا يَجِبُ فِي الْفَرْعِ، وَهَذَا لِأَنَّ أَكْثَرَ الصَّائِمِينَ يَكُونُونَ مُفِيقِينَ قَرِيبِ الْفَجْرِ فَقَوْمٌ لِتَهَجُّدِهِمْ وَقَوْمٌ لِسُحُورِهِمْ، فَلَوْ أُلْزِمَتْ النِّيَّةُ قَبْلَ الْفَجْرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَخَلَّلُ الْمُنَافِي بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ لَمْ يَلْزَمْ بِذَلِكَ حَرَجٌ فِي كُلِّ الصَّائِمِينَ وَلَا فِي أَكْثَرِهِمْ، بَلْ فِيمَنْ لَا يُفِيقُ إلَّا بَعْدَ الْفَجْرِ وَهُمْ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِمْ بِخِلَافِ الْبَاقِينَ قَبْلَهُ إذْ يُمْكِنُهُمْ تَأْخِيرُ النِّيَّةِ إلَى مَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَاجَةِ مِنْ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ فَتَحْصُلُ بِذَلِكَ نِيَّةٌ سَابِقَةٌ لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشُّرُوعِ مَا يُنَافِي الصَّوْمَ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ بِهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ عُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّيْسِيرُ بِدَفْعِ الْحَرَجِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَعَنْ كُلِّ صَائِمٍ وَيَلْزَمُ الْمَطْلُوبُ مِنْ شَرْعِيَّتِهِ الْمُتَأَخِّرَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَا يَخُصُّ الْمُعَيَّنَ، بَلْ يَجْرِي فِي كُلِّ صَوْمٍ لَكِنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يَصْلُحُ مُخَصِّصًا لِلْخَبَرِ لَا نَاسِخًا، وَلَوْ جَرَيْنَا عَلَى تَمَامِ لَازِمِ هَذَا الْقِيَاسِ كَانَ نَاسِخًا لَهُ إذْ لَمْ يَبْقَ تَحْتَهُ شَيْءٌ حِينَئِذٍ فَوَجَبَ أَنْ يُحَاذِيَ بِهِ مَوْرِدَ النَّصِّ، وَهُوَ الْوَاجِبُ الْمُعَيَّنُ مِنْ رَمَضَانَ وَنَظِيرُهُ مِنْ النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُلْغِيَ قَيْدَ التَّعْيِينِ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَاهُ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ إبْطَالًا لِحُكْمِ لَفْظٍ بِلَا لَفْظٍ يَنُصُّ فِيهِ فَلْيُتَأَمَّلْ وَانْتَظَمَ مَا ذَكَرْنَاهُ جَوَابُ مَالِكٍ أَيْضًا. فَإِنْ قِيلَ: فَمِنْ أَيْنَ اخْتَصَّ اعْتِبَارُهَا بِوُجُودِهَا فِي أَكْثَرِ النَّهَارِ وَمَا رَوَيْتُمْ لَا يُوجِبُهُ؟ قُلْنَا: لَمَّا كَانَ مَا رَوَيْنَاهُ وَاقِعَةَ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ النَّهَارِ احْتَمَلَ كَوْنَ إجَازَةِ الصَّوْمِ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ لِوُجُودِ النِّيَّةِ فِيهَا فِي أَكْثَرِهِ بِأَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْأَسْلَمِيُّ بِالنِّدَاءِ كَانَ الْبَاقِي مِنْ النَّهَارِ أَكْثَرَهُ، وَاحْتَمَلَ كَوْنُهَا لِلتَّجْوِيزِ مِنْ النَّهَارِ مُطْلَقًا فِي الْوَاجِبِ، فَقُلْنَا بِالِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ خُصُوصًا، وَمَعْنَاهُ نَصٌّ يَمْنَعُهَا مِنْ النَّهَارِ مُطْلَقًا وَعَضَّدَهُ الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ لِلْأَكْثَرِ مِنْ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ حُكْمَ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَوَارِدِ الْفِقْهِ، فَعَلَى اعْتِبَارِ هَذَا يَلْزَمُ اعْتِبَارُ كُلِّ النَّهَارِ بِلَا نِيَّةٍ لَوْ اكْتَفَى بِهَا فِي أَقَلِّهِ، فَوَجَبَ الِاعْتِبَارُ الْآخَرُ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّ بِالصَّوْمِ فَلَمْ يَجُزْ مِثْلُهُ فِي الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ لِأَنَّهُ رُكْنٌ وَاحِدٌ مُمْتَدٌّ فَبِالْوُجُودِ فِي أَكْثَرِهِ يُعْتَبَرُ قِيَامُهَا فِي كُلِّهِ بِخِلَافِهِمَا، فَإِنَّهُمَا أَرْكَانٌ فَيُشْتَرَطُ قِرَانُهَا بِالْعَقْدِ عَلَى أَدَائِهِمَا. وَإِلَّا خَلَتْ بَعْضُ الْأَرْكَانِ عَنْهَا فَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ الرُّكْنُ عِبَادَةً، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ.
قولهُ: (خِلَافًا لِزُفَرِ) فَإِنَّهُ يَقول: لَا يَجُوزُ رَمَضَانُ مِنْ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِمَا كَالْقَضَاءِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهِ عَلَيْهِمَا. قُلْنَا لَا تَفْصِيلَ فِيمَا ذَكَرْنَا فِي الْوَاجِبِ الْمُعَيَّنِ، ثُمَّ هُمَا إنَّمَا خُولِفَ بِهِمَا الْغَيْرُ شَرْعًا فِي التَّخْفِيفِ لَا التَّغْلِيظِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ مُتَعَيِّنٌ بِنَفْسِهِ عَلَى الْكُلِّ غَيْرَ أَنَّهُ جَازَ لَهُمَا تَأْخِيرُهُ تَخْفِيفًا لِلرُّخْصَةِ، فَإِذَا صَامَا وَتَرَكَا التَّرْخِيصَ الْتَحَقَا بِالْمُقِيمِ.
قولهُ: (وَهَذَا الضَّرْبُ) أَيْ مَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَانٍ مِنْ الْوَاجِبِ (يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ وَبِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ) وَهَذَا الْإِطْلَاقُ لَا يَتِمُّ فِي الْمَنْذُورِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنَّهُ يَتَأَدَّى بِالنِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ، أَمَّا لَوْ نَوَى وَاجِبًا آخَرَ كَكَفَّارَةٍ يَقَعُ عَمَّا نَوَى، وَعَلَّلَ بِأَنَّ تَعْيِينَ النَّاذِرِ الْيَوْمَ يُعْتَبَرُ فِي إبْطَالِ مَحَلِّيَّتِهِ لِحَقٍّ لَهُ وَهُوَ النَّفَلُ لَا مَحَلِّيَّتِهِ فِي حَقٍّ حُقَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ لَا تَتَجَاوَزُ حَقَّهُ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ: بِأَنَّ التَّعْيِينَ بِإِذْنِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ الشَّارِعُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَعَدَّى إلَى حَقِّهِ لِإِذْنِهِ بِإِلْزَامِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَذِنَ مُقْتَصِرًا عَلَى أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَعْنِي الْعَبْدَ، وَأَوْرَدَ لَمَّا لَمْ يَتَعَدَّ إلَى حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ بَقِيَ مُحْتَمِلًا لِصَوْمِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ التَّعْيِينَ، وَلَا يَتَأَدَّى بِإِطْلَاقِ النِّيَّةِ كَالظُّهْرِ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ صَوْمَ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ الْوَقْتِ، وَأَصْلُ الْمَشْرُوعِ فِيهِ النَّفَلُ الَّذِي صَارَ وَاجِبًا بِالنَّذْرِ، وَهُوَ وَاحِدٌ فَيَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ إلَيْهِ، وَكَذَا نِيَّةُ النَّفْلِ بِخِلَافِ الظُّهْرِ الْمَضِيقِ فَإِنَّ تَعْيِينَ الْوَقْتِ يُعَارِضُ التَّقْصِيرَ بِتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ فَلَا يَتَعَيَّنُ الْوَقْتُ بَعْدَهُ لَهُ بَعْدَمَا كَانَ غَيْرَ مُتَعَيَّنٍ لَهُ قوله: (كَالْمُتَوَحِّدِ فِي الدَّارِ يَنَالُ بِاسْمِ جِنْسِهِ) عُلِمَ مِنْ وَجْهِ قول الشَّافِعِيِّ فِي اشْتِرَاطِ تَعْيِينِ النِّيَّةِ أَنَّ الثَّابِتَ عَنْ الشَّارِعِ تَعْيِينُ الْمَحَلِّ وَهُوَ الزَّمَانُ لِقَبُولِ الْمَشْرُوعِ الْمُعَيَّنِ، وَلَازِمُهُ نَفْيُ صِحَّةِ غَيْرِهِ، وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ لُزُومِ التَّعْيِينِ عَنْ الْمُكَلَّفِ، لِأَنَّ إلْزَامَ التَّعْيِينِ لَيْسَ لِتَعْيِينِ الْمَشْرُوعِ لِلْمَحَلِّ بَلْ لِيَثْبُتَ الْوَاجِبُ عَنْ اخْتِيَارٍ مِنْهُ فِي أَدَائِهِ لَا جَبْرًا. وَتَعَيُّنُ الْمَحَلِّ شَرْعًا لَيْسَ عِلَّةً لِاخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ وَنِيَّةُ مُطْلَقِ الصَّوْمِ كَذَلِكَ قولكُمْ، الْمُتَوَحِّدُ يَنَالُ بِاسْمِ جِنْسِهِ كَزَيْدٍ يُنَادَى بِيَا حَيَوَانُ وَيَا رَجُلُ، قُلْنَا: إنْ أَرَادَ بِقولهِ: يَا حَيَوَانُ زَيْدًا مَثَلًا فَهُوَ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ نَظَرُهُ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِمُطْلَقِ الصَّوْمِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ النِّيَّةِ صَوْمَ رَمَضَانَ، وَحِينَئِذٍ لَيْسَ هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ لِأَنَّهُ قَصَدَ صَوْمَ رَمَضَانَ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ بِعَيْنِهِ بِهِ بَلْ أَرَادَ فَرْدًا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ لَمْ يَخْطِرْ بِخَاطِرِهِ سِوَى ذَلِكَ، كَمَا هُوَ حَقِيقَةُ إرَادَةِ الْمُطْلَقِ مِثْلَ قول الْأَعْمَى: يَا رَجُلًا خُذْ بِيَدِي، فَلَيْسَ هُوَ إرَادَةُ ذَلِكَ الْمُتَعَيَّنِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ، بَلْ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ أَوْ غَيْرُهُ، فَلُزُومُ ثُبُوتِ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ يَكُونُ لَا عَنْ قَصْدٍ إلَيْهِ إذْ الْفَرْضُ أَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِعَيْنِهِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ جَبْرًا. لَكِنْ لَا بُدَّ فِي أَدَاءِ الْفَرْضِ مِنْ الِاخْتِيَارِ، وَاخْتِيَارُ الْأَعَمِّ لَيْسَ اخْتِيَارُ الْأَخَصِّ بِخُصُوصِهِ، وَإِذَا بَطَلَ فِي الْمُطْلَقِ بَطَلَ فِي إرَادَةِ النَّفْلِ وَوَاجِبٍ آخَرَ، لِأَنَّ الصِّحَّةَ بِهِمَا إنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَارِ الصِّحَّةِ بِالْمُطْلَقِ بِنَاءً عَلَى لَغْوِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ فَيَبْقَى هُوَ بِهِ يَتَأَدَّى، بَلْ الْبُطْلَانُ هُنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ قَصْدِ الْمُتَعَيَّنِ بِقَصْدِ الْأَعَمِّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَصَدَ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَهُوَ مِنْهَا بِخِلَافِ هَذَا إذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ قَصْدُ تَعْيِينِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، ثُمَّ اعْتِبَارُ ذَلِكَ الْمُطْلَقِ الَّذِي فِي ضِمْنِهِ بَعْدَمَا لَغَا مُصَابًا بِهِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ مَعَ تَصْرِيحِهِ بِأَنِّي لَمْ أُرِدْ الْمُطْلَقَ بَلْ الْكَائِنَ بِقَيْدِ كَذَا جُبِرَ عَلَى إيقَاعِهِ، وَهُوَ النَّافِي لِلصِّحَّةِ، فَكَيْفَ يُسْقِطُ صَوْمَ رَمَضَانَ وَهُوَ يُنَادِي وَيَقول: لَمْ أُرِدْهُ بَلْ صَوْمُ كَذَا وَأَرَدْت عَدَمَهُ، فَإِنَّهُ مَعَ إرَادَةِ عَدَمِهِ إذَا أَرَادَ صَوْمًا آخَرَ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ عِنْدَكُمْ.

متن الهداية:
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ وَالصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لِأَنَّ الرُّخْصَةَ كَيْ لَا تَلْزَمَ الْمَعْذُورَ مَشَقَّةٌ فَإِذَا تَحَمَّلَهَا اُلْتُحِقَ بِغَيْرِ الْمَعْذُورِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا صَامَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ يَقَعُ عَنْهُ لِأَنَّهُ شَغَلَ الْوَقْتَ بِالْأَهَمِّ لِتَحَتُّمِهِ لِلْحَالِ وَتَخَيُّرِهِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إلَى إدْرَاكِ الْعِدَّةِ. وَعَنْهُ فِي نِيَّةِ التَّطَوُّعِ رِوَايَتَانِ، وَالْفَرْقُ عَلَى إحْدَاهُمَا أَنَّهُ مَا صَرَفَ الْوَقْتَ إلَى الْأَهَمِّ. قَالَ: (وَالضَّرْبُ الثَّانِي مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ كَقَضَاءِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَصَوْمِ الْكَفَّارَةِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ مِنْ الِابْتِدَاءِ (وَالنَّفَلُ كُلُّهُ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ) خِلَافًا لِمَالِكٍ، فَإِنَّهُ يَتَمَسَّكُ بِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا. وَلَنَا قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا كَانَ يُصْبِحُ غَيْرَ صَائِم: «إنِّي إذًا لَصَائِمٌ» وَلِأَنَّ الْمَشْرُوعَ خَارِجَ رَمَضَانَ هُوَ النَّفَلُ فَيَتَوَقَّفُ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ عَلَى صَيْرُورَتِهِ صَوْمًا بِالنِّيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ نَوَى بَعْدَ الزَّوَالِ لَا يَجُوزُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ وَيَصِيرُ صَائِمًا مِنْ حِينِ نَوَى إذْ هُوَ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ لِكَوْنِهِ مَبْنِيًّا عَلَى النَّشَاطِ، وَلَعَلَّهُ يَنْشَطُ بَعْدَ الزَّوَالِ إلَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الْإِمْسَاكَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَعِنْدَنَا يَصِيرُ صَائِمًا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ لِأَنَّهُ عِبَادَةُ قَهْرِ النَّفْسِ، وَهِيَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِإِمْسَاكٍ مُقَدَّرٍ فَيُعْتَبَرُ قِرَانُ النِّيَّةِ بِأَكْثَرِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ وَالصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ) أَيْ أَنَّهُ يَتَأَدَّى رَمَضَانُ مِنْهُمَا بِالْمُطْلَقَةِ وَنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ وَالنَّفَلِ عِنْدَهُمَا، وَالْوَجْهُ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ.
قولهُ: (وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا صَامَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ) جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ إخْرَاجَ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُسَافِرَ إذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ بِلَا اخْتِلَافٍ فِي الرِّوَايَةِ. وَلَهُ فِيهِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ نَفْسَ الْوُجُوبِ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ إلَّا أَنَّ الشَّارِعَ أَثْبَتَ لَهُ التَّرْخِيصَ بِتَرْكِ الصَّوْمِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ لِلْمَشَقَّةِ، وَمَعْنَى التَّرْخِيصِ أَنْ يَدَعَ مَشْرُوعَ الْوَقْتِ بِالْمَيْلِ إلَى الْأَخَفِّ، فَإِذَا اشْتَغَلَ بِوَاجِبٍ آخَرَ كَانَ مُتَرَخِّصًا لِأَنَّ إسْقَاطَهُ مِنْ ذِمَّتِهِ أَهَمُّ مِنْ إسْقَاطِ فَرْضِ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُدْرِكَ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لَمْ يُؤَاخَذْ بِفَرْضِ الْوَقْتِ، وَيُؤَاخَذُ بِوَاجِبٍ آخَرَ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنَّهُ إذَا نَوَى النَّفَلَ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْهُ، إذْ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ مَعْنَى التَّرَخُّصِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ، لِأَنَّ الْفَائِدَةَ فِي النَّفْلِ لَيْسَ إلَّا الثَّوَابُ، وَهُوَ فِي الْفَرْضِ أَكْثَرُ، فَكَانَ هَذَا مَيْلًا إلَى الْأَثْقَلِ فَيَلْغُو وَصْفُ النَّفْلِيَّةِ وَيَبْقَى مُطْلَقُ الصَّوْمِ فَيَقَعُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ. وَالثَّانِي: أَنَّ انْتِفَاءَ شَرْعِيَّةِ الصِّيَامَاتِ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ الْوُجُوبِ، فَإِنَّ الْوُجُوبَ مَوْجُودٌ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ بَلْ هُوَ مِنْ حُكْمِ تَعْيِينِ هَذَا الزَّمَانِ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ، وَلَا تَعَيُّنَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ، لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالتَّأْخِيرِ فَصَارَ هَذَا الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ كَشَعْبَانَ فَيَصِحُّ مِنْهُ أَدَاءُ وَاجِبٍ آخَرَ كَمَا فِي شَعْبَانَ. وَهَذَا الطَّرِيقُ يُوجِبُ أَنَّهُ إذَا نَوَى النَّفَلَ يَقَعُ عَمَّا نَوَى، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْهُ، وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ اللَّتَانِ حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ. وَأَمَّا إخْرَاجُ الْمَرِيضِ إذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ وَجَعْلُهُ كَالْمُسَافِرِ، فَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَأَكْثَرِ مَشَايِخِ بُخَارَى لِأَنَّ رُخْصَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِخَوْفِ ازْدِيَادِ الْمَرَضِ لَا بِحَقِيقَةِ الْعَجْزِ، فَكَانَ كَالْمُسَافِرِ فِي تَعَلُّقِ الرُّخْصَةِ فِي حَقَّةِ بِعَجْزٍ مُقَدَّرٍ، وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَقَعُ عَمَّا نَوَى لِأَنَّ رُخْصَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِحَقِيقَةِ الْعَجْزِ. قِيلَ: مَا قَالَاهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْعَزِيزِ: وَكَشَفَ هَذَا أَنَّ الرُّخْصَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْمَرَضِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ يَتَنَوَّعُ إلَى مَا يَضُرُّ بِهِ الصَّوْمُ نَحْوَ الْحُمَّيَاتِ وَوَجَعِ الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَغَيْرِهَا، وَمَا لَا يَضُرُّ بِهِ كَالْأَمْرَاضِ الرُّطُوبِيَّةِ وَفَسَادِ الْهَضْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالتَّرَخُّصُ إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْمَشَقَّةِ فَيَتَعَلَّقُ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ بِخَوْفِ ازْدِيَادِ الْمَرَضِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ الْعَجْزَ الْحَقِيقِيَّ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَفِي الثَّانِي بِحَقِيقَتِهِ فَإِذَا صَامَ هَذَا الْمَرِيضُ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ أَوْ النَّفَلَ وَلَمْ يَهْلَك ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَاجِزًا فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ التَّرَخُّصُ فَيَقَعُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ، وَإِذَا صَامَ ذَلِكَ الْمَرِيضُ كَذَلِكَ يَقَعُ عَمَّا نَوَى لِتَعَلُّقِهَا بِعَجْزٍ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ ازْدِيَادُ الْمَرَضِ كَالْمُسَافِرِ، فَيَسْتَقِيمُ جَوَابُ الْفَرِيقَيْنِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ قَالَ: وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ: أَنَّ الْجَوَابَ فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ سَوَاءٌ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهَذَا سَهْوٌ أَوْ مُؤَوَّلٌ وَمُرَادُهُ مَرِيضٌ يُطِيقُ الصَّوْمَ وَيَخَافُ مِنْهُ ازْدِيَادَ الْمَرَضِ، فَهَذَا يَدُلُّك عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا.
قولهُ: (فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ) لَيْسَ بِلَازِمٍ، بَلْ إنْ نَوَى مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قِرَانُ النِّيَّةِ بِالصَّوْمِ لَا تَقْدِيمُهَا، كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ.
قولهُ: (لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ) وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ثُبُوتَ التَّوَقُّفِ إنَّمَا كَانَ بِالنَّصِّ وَمَوْرِدُهُ كَانَ الْوَاجِبُ الْمُعَيَّنُ فَعَقَلَ أَنَّ ثُبُوتَ التَّوَقُّفِ بِوَاسِطَةِ التَّعَيُّنِ مَعَ لُزُومِ النِّيَّةِ وَاشْتِرَاطِهَا فِي أَدَاءِ الْعِبَادَةِ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُخَلِّي الزَّمَنَ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الْعِبَادَةُ عَنْ النِّيَّةِ وَكَانَ هَذَا رِفْقًا بِالْمُكَلَّفِ كَيْ لَا يَتَضَرَّرَ فِي دِينِهِ وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْرِيرِهِ، وَغَيْرُ الْمُعَيَّنِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ اعْتِبَارِ خُلُوِّهِ عَنْ النِّيَّةِ لِلْخُلُوِّ الْخَالِي عَنْهَا وَهُوَ الْأَصْلُ أَعْنِي اعْتِبَارَ الْخُلُوِّ لِلْخُلُوِّ الْخَالِي ضَرَرٌ دِينِيٌّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي فَلَا يَأْثَمُ بِعَدَمِ صِحَّتِهِ لِعَدَمِ النِّيَّةِ فِيهِ فَلَا مُوجِبَ لِلتَّوَقُّفِ، لَا يُقَالُ تَوَقَّفَ فِي النَّفْلِ، وَلَيْسَ فِيهِ الْمُوجِبُ الَّذِي ذَكَرْت بَلْ مُجَرَّدُ طَلَبِ الثَّوَابِ وَهُوَ مَعَ إسْقَاطِ الْفَرْضِ ثَابِتٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ فِي حَقِّ هَذِهِ الصِّيَامَاتِ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّا نَقول: يَمْنَعُ مِنْهُ لُزُومُ كَوْنِ الْمَعْنَى نَاسِخًا بِالنَّصِّ، أَعْنِي قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» إذْ قَدْ خَرَجَ مِنْهُ الْوَاجِبُ الْمُعَيَّنُ بِالنَّصِّ مُقَارِنًا لِلْمَعْنَى الَّذِي عَيَّنَاهُ، وَهُوَ لَا يَتَعَدَّاهُ فَلَوْ أَخْرَجَ غَيْرَ الْمُعَيَّنِ أَيْضًا مَعَ أَنَّ النَّفَلَ قَدْ خَرَجَ أَيْضًا بِالنَّصِّ بِمَا ذَكَرْت مِمَّا عَقَلْت فِي إخْرَاجِ النَّفْلِ لَمْ يَبْقَ تَحْتَ الْعَامِّ شَيْءٌ بِالْمَعْنَى الَّذِي عَيَّنْته وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَلَازِمُهُ كَوْنِ مَا عَيَّنْته فِي النَّفْلِ لَيْسَ مَقْصُودَ الشَّارِعِ مِنْ شَرْعِيَّةِ الصِّحَّةِ فِي النَّفْلِ بَلْ مَقْصُودُهُ زِيَادَةُ تَخْفِيفِ النَّفْلِ عَلَى تَخْفِيفِ الْوَاجِبِ حَيْثُ اُعْتُبِرَ التَّوَقُّفُ فِيهِ لِمُجَرَّدِ تَحْصِيلِ الثَّوَابِ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي الصَّلَاةِ حَيْثُ جَازَتْ نَافِلَتُهَا عَلَى الدَّابَّةِ وَجَالِسًا بِلَا عُذْرٍ، بِخِلَافِ فَرِيضَتِهَا لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا. لَا يُقَالُ مَا عَلَّلْتُمْ بِهِ فِي الْمُعَيَّنِ قَاصِرٌ، وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونَ التَّعْلِيلَ بِالْقَاصِرَةِ. لِأَنَّا نَقول ذَلِكَ لِلْقِيَاسِ لَا مُجَرَّدِ إبْدَاءِ مَعْنًى هُوَ حِكْمَةُ الْمَنْصُوصِ لِأَنَّهُ إجْمَاعٌ، وَالنِّزَاعُ فِي الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْسِيرِ التَّعْلِيلِ بِمَا يُسَاوِي الْقِيَاسَ أَوْ أَعَمَّ مِنْهُ لَا يُشَكُّ فِي هَذَا، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِيمَا كَتَبْنَاهُ عَلَى الْبَدِيعِ وَمِنْ فُرُوعِ لُزُومِ التَّبْيِيتِ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ: لَوْ نَوَى الْقَضَاءَ مِنْ النَّهَارِ فَلَمْ يَصِحَّ هَلْ يَقَعُ عَنْ النَّفْلِ: فِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ نَعَمْ، وَلَوْ أَفْطَرَ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؟ قِيلَ: هَذَا إذَا عَلِمَ أَنَّ صَوْمَهُ عَنْ الْقَضَاءِ لَمْ يَصِحَّ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ فَلَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ كَمَا فِي الْمَظْنُونِ.
قولهُ: (فَإِنَّهُ يَتَمَسَّكُ بِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا) وَهُوَ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فَارْجِعْ إلَيْهِ. وَمِنْ فُرُوعِ النِّيَّةِ أَنَّ الْأَفْضَلَ النِّيَّةُ مِنْ اللَّيْلِ فِي الْكُلِّ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَ وَاحِدٍ الْأَوْلَى أَنْ يَنْوِيَ أَوَّلَ يَوْمٍ وَجَبَ عَلَيَّ قَضَاؤُهُ مِنْ هَذَا الرَّمَضَانِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ الْأَوَّلُ جَازَ وَكَذَا لَوْ كَانَا مِنْ رَمَضَانَيْنِ عَلَى الْمُخْتَارِ، حَتَّى لَوْ نَوَى الْقَضَاءَ لَا غَيْرُ جَازَ، وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ فِطْرٍ فَصَامَ أَحَدًا وَسِتِّينَ يَوْمًا عَنْ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ يَوْمُ الْقَضَاءِ جَازَ، وَهَلْ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْقَضَاءِ؟ قِيلَ: يَجُوزُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ سَنَةَ كَذَا فَصَامَ شَهْرًا يَنْوِي الْقَضَاءَ عَنْ الشَّهْرِ الَّذِي عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ نَوَى أَنَّهُ رَمَضَانُ سَنَةَ كَذَا لِغَيْرِهِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجْزِيهِ. وَلَوْ صَامَ شَهْرًا يَنْوِي الْقَضَاءَ عَنْ سَنَةِ كَذَا عَلَى الْخَطَإِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ أَفْطَرَ ذَلِكَ قَالَ: لَا يَجْزِيهِ، وَلَوْ نَوَى بِاللَّيْلِ أَنْ يَصُومَ غَدًا ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي اللَّيْلِ وَعَزَمَ عَلَى الْفِطْرِ لَمْ يُصْبِحْ صَائِمًا فَلَوْ أَفْطَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ رَمَضَانُ، وَلَوْ مَضَى عَلَيْهِ لَا يَجْزِيهِ لِأَنَّ تِلْكَ النِّيَّةَ انْتَقَضَتْ بِالرُّجُوعِ، وَلَوْ قَالَ: نَوَيْت صَوْمَ غَدٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَعَنْ الْحَلْوَانِيِّ: يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ إنَّمَا تُبْطِلُ اللَّفْظَ، وَالنِّيَّةُ فِعْلُ الْقَلْبِ، وَلَوْ جَمَعَ فِي نِيَّةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَ صَوْمَيْنِ نَذْكُرُهُ عَنْ قَرِيبٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا اشْتَبَهَ عَلَى الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ رَمَضَانُ تَحَرَّى وَصَامَ، فَإِنْ ظَهَرَ صَوْمُهُ قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِسْقَاطِ لَا تَسْبِقُ الْوُجُوبَ، وَإِنْ ظَهَرَ بَعْدَهُ جَازَ فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ شَوَّالًا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمٍ، فَلَوْ كَانَ نَاقِصًا فَقَضَاءُ يَوْمَيْنِ، أَوْ ذَا الْحِجَّةِ قَضَى أَرْبَعَةً لِمَكَانِ أَيَّامِ النَّحْرِ وَالتَّشْرِيقِ فَإِنْ اتَّفَقَ كَوْنُهُ نَاقِصًا عَنْ ذَلِكَ الرَّمَضَانِ قَضَى خَمْسَةً ثُمَّ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَشَايِخِ: هَذَا إذَا نَوَى أَنْ يَصُومَ مَا عَلَيْهِ مِنْ رَمَضَانَ، أَمَّا إذَا نَوَى صَوْمَ أَدَاءً لِصِيَامِ رَمَضَانَ فَلَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يُوَافِقَ رَمَضَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ الْجَوَازَ وَهُوَ حَسَنٌ. فَصْلٌ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَلْتَمِسُوا الْهِلَالَ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنْ رَأَوْهُ صَامُوا، وَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِمْ أَكْمَلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامُوا) لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ الْهِلَالُ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا» وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الشَّهْرِ فَلَا يُنْقَلُ عَنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلَمْ يُوجَدْ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ).
قولهُ: (وَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ) أَيْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ.
قولهُ: (لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا». وَقولهُ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ فِيهِ تَسَاهُلٌ، فَإِنَّ التَّرَائِيَ إنَّمَا يَجِبُ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ لَا فِي الْيَوْمِ الَّذِي هِيَ عَشِيَّتُهُ، نَعَمْ لَوْ رُئِيَ فِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ بَعْدَ الزَّوَالِ كَانَ كَرُؤْيَتِهِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي رُؤْيَتِهِ قَبْلَ الزَّوَالِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّلَاثِينَ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ مِنْ اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ فَيَجِبُ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفِطْرُهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي آخِرِ رَمَضَانَ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: هُوَ لِلْمُسْتَقْبَلَةِ هَكَذَا حَكَى الْخِلَافَ فِي الْإِيضَاحِ، وَحَكَاهُ فِي الْمَنْظُومَةِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَقَطْ، وَفِي التُّحْفَةِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ إلَى الْعَصْرِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ فَهُوَ لِلْمُسْتَقْبَلَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَقولهِمَا، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَهُوَ قول عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِثْلَ قول أَبِي يُوسُفَ.اهـ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ مَجْرَاهُ أَمَامَ الشَّمْسِ، وَالشَّمْسُ تَتْلُوهُ فَهُوَ لِلْمَاضِيَةِ، وَإِنْ كَانَ خَلْفَهَا فَلِلْمُسْتَقْبِلَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: إذَا غَابَ بَعْدَ الشَّفَقِ فَلِلْمَاضِيَةِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَلِلرَّاهِنَةِ. وَجْهُ قول أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يُرَى قَبْلَ الزَّوَالِ إلَّا وَهُوَ لِلَيْلَتَيْنِ فَيُحْكَمُ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ عَلَى اعْتِبَارِ ذَلِكَ، وَلَهُمَا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» فَوَجَبَ سَبْقُ الرُّؤْيَةِ عَلَى الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ، وَالْمَفْهُومُ الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ الرُّؤْيَةُ عِنْدَ عَشِيَّةِ آخِرِ كُلِّ شَهْرٍ عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ مِنْ الثَّلَاثِينَ، وَالْمُخْتَارُ قولهُمَا، وَهُوَ كَوْنُهُ لِلْمُسْتَقْبَلَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ، إلَّا أَنَّ وَاحِدًا لَوْ رَآهُ فِي نَهَارِ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَظَنَّ انْقِضَاءَ مُدَّةِ الصَّوْمِ وَأَفْطَرَ عَمْدًا يَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، وَإِنْ رَآهُ بَعْدَ الزَّوَالِ ذَكَرَهُ فِي الْخُلَاصَةِ. هَذَا وَتُكْرَهُ الْإِشَارَةُ إلَى الْهِلَالِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ، لِأَنَّهُ فِعْلُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ فِي مِصْرَ لَزِمَ سَائِرَ النَّاسِ فَيَلْزَمُ أَهْلَ الْمَشْرِقِ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَقِيلَ: يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ لِأَنَّ السَّبَبَ الشَّهْرُ، وَانْعِقَادُهُ فِي حَقِّ قَوْمٍ لِلرُّؤْيَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ انْعِقَادَهُ فِي حَقِّ آخَرِينَ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ، وَصَارَ كَمَا لَوْ زَالَتْ أَوْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ عَلَى قَوْمٍ دُونَ آخَرِينَ وَجَبَ عَلَى الْأَوَّلِينَ الظُّهْرُ وَالْمَغْرِبُ دُونَ أُولَئِكَ، وَجْهُ الْأَوَّلِ عُمُومُ الْخِطَابِ فِي قوله: «صُومُوا» مُعَلَّقًا بِمُطْلَقِ الرُّؤْيَةِ فِي قولهِ لِرُؤْيَتِهِ، وَبِرُؤْيَةِ قَوْمٍ يَصْدُقُ اسْمُ الرُّؤْيَةِ فَيَثْبُتُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ عُمُومِ الْحُكْمِ، فَيَعُمُّ الْوُجُوبَ بِخِلَافِ الزَّوَالِ وَالْغُرُوبِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ تَعَلُّقُ عُمُومِ الْوُجُوبِ بِمُطْلَقِ مُسَمَّاهُ فِي خِطَابٍ مِنْ الشَّارِعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ إنَّمَا يَلْزَمُ مُتَأَخِّرِي الرُّؤْيَةِ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ رُؤْيَةُ أُولَئِكَ بِطَرِيقٍ مُوجِبٍ، حَتَّى لَوْ شَهِدَ جَمَاعَةٌ أَنَّ أَهْلَ بَلَدِ كَذَا رَأَوْا هِلَالَ رَمَضَانَ قَبْلَكُمْ بِيَوْمٍ فَصَامُوا وَهَذَا الْيَوْمُ ثَلَاثُونَ بِحِسَابِهِمْ، وَلَمْ يَرَ هَؤُلَاءِ الْهِلَالَ لَا يُبَاحُ لَهُمْ فِطْرُ غَدٍ، وَلَا تُتْرَكُ التَّرَاوِيحُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْجَمَاعَةَ لَمْ يَشْهَدُوا بِالرُّؤْيَةِ، وَلَا عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا حَكَوْا رُؤْيَةَ غَيْرِهِمْ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا شَهِدَ عِنْدَهُ اثْنَانِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي لَيْلَةِ كَذَا، وَقَضَى بِشَهَادَتِهِمَا جَازَ لِهَذَا الْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَتِهَا لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي حُجَّةٌ وَقَدْ شَهِدُوا بِهِ، وَمُخْتَارُ صَاحِبِ التَّجْرِيدِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَشَايِخِ اعْتِبَارُ اخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ، وَعُورِضَ لَهُمْ بِحَدِيثِ كُرَيْبٌ أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بَعَثَتْهُ إلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ قَالَ: فَقَدِمْت الشَّامَ فَقَضَيْت حَاجَتَهَا، وَاسْتَهَلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ فَرَأَيْت الْهِلَالَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْت الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ، فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُمُوهُ؟ فَقُلْت: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ فَقُلْت: نَعَمْ وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ أَوْ نَرَاهُ فَقُلْت: أَوْ لَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَصَوْمِهِ، فَقَالَ: لَا؛ هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَكَّ أَحَدُ رُوَاتِهِ فِي تَكْتَفِي بِالنُّونِ أَوْ بِالتَّاءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ نَصٌّ وَذَلِكَ مُحْتَمَلٌ لِكَوْنِ الْمُرَادِ أَمْرَ كُلِّ أَهْلِ مَطْلَعٍ بِالصَّوْمِ لِرُؤْيَتِهِمْ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ لِلْإِشَارَةِ فِي قولهِ هَكَذَا إلَى نَحْوِ مَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ أُمِّ الْفَضْلِ، وَحِينَئِذٍ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّ مِثْلَ مَا وَقَعَ مِنْ كَلَامِهِ لَوْ وَقَعَ لَنَا لَمْ نَحْكُمْ بِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ وَلَا عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ. فَإِنْ قِيلَ: إخْبَارُهُ عَنْ صَوْمِ مُعَاوِيَةَ يَتَضَمَّنُهُ لِأَنَّهُ الْإِمَامُ يُجَابُ بِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَهُوَ وَاحِدٌ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْقَاضِي، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَالْأَخْذُ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَحْوَطُ.

متن الهداية:
(وَلَا يَصُومُونَ يَوْمَ الشَّكِّ إلَّا تَطَوُّعًا) لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا تَطَوُّعًا» وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْوِيَ صَوْمَ رَمَضَانَ وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ زَادُوا فِي مُدَّةِ صَوْمِهِمْ ثُمَّ إنْ ظَهَرَ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ يَجْزِيهِ لِأَنَّهُ شَهِدَ الشَّهْرَ وَصَامَهُ وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ كَانَ تَطَوُّعًا، وَإِنْ أَفْطَرَ لَمْ يَقْضِهِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَظْنُونِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَنْوِيَ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ وَهُوَ مَكْرُوهٌ أَيْضًا لِمَا رَوَيْنَا إلَّا أَنَّ هَذَا دُونَ الْأَوَّلِ فِي الْكَرَاهَةِ ثُمَّ إنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ يَجْزِيهِ لِوُجُودِ أَصْلِ النِّيَّةِ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ فَقَدْ قِيلَ: يَكُونُ تَطَوُّعًا لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ، وَقِيلَ: يَجْزِيهِ عَنْ الَّذِي نَوَاهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَهُوَ التَّقَدُّمُ عَلَى رَمَضَانَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ لَا يَقُومُ بِكُلِّ صَوْمٍ، بِخِلَافِ يَوْمِ الْعِيدِ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَهُوَ تَرْكُ الْإِجَابَةِ بِلَازِمِ كُلِّ صَوْمٍ، وَالْكَرَاهِيَةُ هَهُنَا لِصُورَةِ النَّهْيِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَنْوِيَ التَّطَوُّعَ وَهُوَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ لِمَا رَوَيْنَا وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قولهِ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ، وَالْمُرَادُ بِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَتَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا بِصَوْمِ يَوْمَيْنِ» الْحَدِيثَ، التَّقَدُّمُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّيهِ قَبْلَ أَوَانِهِ، ثُمَّ إنْ وَافَقَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ فَالصَّوْمُ أَفْضَلُ بِالْإِجْمَاعِ: وَكَذَا إذَا صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ فَصَاعِدًا، وَإِنْ أَفْرَدَهُ فَقَدْ قِيلَ: الْفِطْرُ أَفْضَلُ احْتِرَازًا عَنْ ظَاهِرِ النَّهْيِ وَقَدْ قِيلَ: الصَّوْمُ أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِعَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُمَا كَانَا يَصُومَانِهِ، وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَصُومَ الْمُفْتِي بِنَفْسِهِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ، وَيُفْتِي الْعَامَّةَ بِالتَّلَوُّمِ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ ثُمَّ بِالْإِفْطَارِ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يُضْجَعَ فِي أَصْلِ النِّيَّةِ بِأَنْ يَنْوِي أَنْ يَصُومَ غَدًا إنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ وَلَا يَصُومُهُ إنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ لَا يَصِيرُ صَائِمًا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ عَزِيمَتَهُ فَصَارَ كَمَا إذَا نَوَى أَنَّهُ إنْ وَجَدَ غَدًا غَدَاءً يُفْطِرُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ يَصُومُ. وَالْخَامِسُ: أَنْ يُضْجَعَ فِي وَصْفِ النِّيَّةِ بِأَنْ يَنْوِيَ إنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ يَصُومُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ فَعَنْ وَاجِبٍ آخَرَ، وَهَذَا مَكْرُوهٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مَكْرُوهَيْنِ. ثُمَّ إنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ لِعَدَمِ التَّرَدُّدِ فِي أَصْلِ النِّيَّةِ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ لَا يَجْزِيهِ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ لِأَنَّ الْجِهَةَ لَمْ تَثْبُتْ لِلتَّرَدُّدِ فِيهَا، وَأَصْلُ النِّيَّةِ لَا يَكْفِيهِ لَكِنَّهُ يَكُونُ تَطَوُّعًا غَيْرَ مَضْمُونٍ بِالْقَضَاءِ لِشُرُوعِهِ فِيهِ مُسْقِطًا، وَإِنْ نَوَى عَنْ رَمَضَانَ إنْ كَانَ غَدًا مِنْهُ وَعَنْ التَّطَوُّعِ إنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ يُكْرَهُ لِأَنَّهُ نَاوٍ لِلْفَرْضِ مِنْ وَجْهٍ، ثُمَّ إنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ عَنْهُ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ جَازَ عَنْ نَفْلِهِ لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِأَصْلِ النِّيَّةِ، وَلَوْ أَفْسَدَهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَقْضِيَهُ لِدُخُولِ الْإِسْقَاطِ فِي عَزِيمَتِهِ مِنْ وَجْهٍ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَصُومُونَ يَوْمَ الشَّكِّ إلَّا تَطَوُّعًا) الْكَلَامُ هُنَا فِي تَصْوِيرِ يَوْمِ الشَّكِّ وَبَيَانِ حُكْمِهِ وَبَيَانِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، أَمَّا الْأَوَّلُ قَالَ هُوَ اسْتِوَاءُ طَرَفَيْ الْإِدْرَاكِ مِنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَمُوجِبُهُ هُنَا أَنْ يُغَمَّ الْهِلَالُ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ فَيَشُكُّ فِي الْيَوْمِ الثَّلَاثِينَ أَمِنْ رَمَضَانَ هُوَ أَوْ مِنْ شَعْبَانَ؟ أَوْ يُغَمَّ مِنْ رَجَبٍ هِلَالُ شَعْبَانَ فَأُكْمِلَتْ عِدَّتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ رُئِيَ هِلَالُ رَمَضَانَ فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ أَهُوَ الثَّلَاثُونَ أَوْ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ، وَمِمَّا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ كَلَامِ غَيْرِ أَصْحَابِنَا مَا إذَا شَهِدَ مَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَبِرُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فِي الصَّحْوِ فَهُوَ مَحْكُومٌ بِغَلَطِهِ عِنْدَنَا لِظُهُورِهِ، فَمُقَابِلُهُ مَوْهُومٌ لَا مَشْكُوكٌ. وَإِنْ كَانَ فِي غَيْمٍ فَهُوَ شَكٌّ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ أَحَدٌ، وَهَذَا لِأَنَّ الشَّهْرَ لَيْسَ الظَّاهِرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثِينَ، حَتَّى أَنَّهُ إذَا كَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَكُونُ مَجِيئًا عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ، بَلْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ كَمَا يَكُونُ ثَلَاثِينَ تَسْتَوِي هَاتَانِ الْحَالَتَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَمَا يُعْطِيهِ الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ فِي الشَّهْرِ، فَاسْتَوَى الْحَالُ حِينَئِذٍ فِي الثَّلَاثِينَ أَنَّهُ مِنْ الْمُنْسَلِخِ أَوْ الْمُسْتَهَلِّ إذَا كَانَ غَيْمٌ فَيَكُونُ مَشْكُوكًا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ الْمُسْتَهَلِّ لَرُئِيَ عِنْدَ التَّرَائِيِ، فَلَمَّا لَمْ يُرَ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُنْسَلِخَ ثَلَاثُونَ، فَيَكُونُ هَذَا الْيَوْمُ مِنْهُ غَيْرَ مَشْكُوكٍ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ حُكْمِ صَوْمِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَقْطَعَ النِّيَّةَ أَوْ يُرَدِّدَهَا، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ صَوْمَ رَمَضَانَ أَوْ وَاجِبٍ آخَرَ أَوْ التَّطَوُّعِ ابْتِدَاءً أَوْ لِاتِّفَاقِ يَوْمٍ كَانَ يَصُومُهُ أَوْ أَيَّامٍ، بِأَنْ كَانَ يَصُومُ مَثَلًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ آخِرِ كُلِّ شَهْرٍ، وَعَلَى الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُضْجَعَ فِيهَا، فَأَمَّا فِي أَصْلِ النِّيَّةِ بِأَنْ يَنْوِيَ مِنْ رَمَضَانَ إنْ كَانَ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فَلَا يَصُومُ، أَوْ فِي وَصْفِهَا بِأَنْ يَنْوِيَ صَوْمَ رَمَضَانَ إنْ كَانَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فَعَنْ وَاجِبٍ كَذَا قَضَاءٌ أَوْ كَفَّارَةٌ أَوْ نَذْرٌ أَوْ رَمَضَانُ إنْ كَانَ مِنْهُ، وَإِلَّا فَعَنْ النَّفْلِ وَالْكُلُّ مَكْرُوهٌ إلَّا فِي التَّرَدُّدِ فِي أَصْلِهَا، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ صَائِمًا وَإِلَّا فِي النَّفْلِ بِلَا إضْجَاعٍ بَلْ فِي صُورَةِ قَطْعِ النِّيَّةِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ لِمُوَافَقَةِ صَوْمٍ كَانَ يَصُومُهُ أَوْ ابْتِدَاءٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ إذَا لَمْ يُوَافِقْ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ قِيلَ: الْفِطْرُ، وَقِيلَ: الصَّوْمُ، ثُمَّ فِيمَا يُكْرَهُ تَتَفَاوَتُ الْكَرَاهَةُ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ. وَهَذَا فِي عَيْنِ يَوْمِ الشَّكِّ، فَأَمَّا صَوْمُ مَا قَبْلَهُ فَفِي التُّحْفَةِ قَالَ: وَالصَّوْمُ قَبْلَ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مَكْرُوهٌ أَيُّ صَوْمٍ كَانَ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ إلَّا أَنْ يُوَافِقَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ». قَالَ: وَإِنَّمَا كَرِهَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ إذَا اعْتَادُوا ذَلِكَ، وَعَنْ هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ يُكْرَهُ وَصْلُ رَمَضَانَ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، وَذَكَرَ قَبْلَهُ بِأَسْطُرٍ عَدَمَ كَرَاهَةِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ تَطَوُّعًا، ثُمَّ قَيَّدَهُ بِكَوْنِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْلَمُ الْعَوَامُّ ذَلِكَ كَيْ لَا يَعْتَادُوا صَوْمَهُ فَيَظُنُّهُ الْجُهَّالُ زِيَادَةً فِي رَمَضَانَ.اهـ. وَظَاهِرُ الْكَافِي فِي خِلَافِهِ قَالَ: إنْ وَافَقَ يَعْنِي يَوْمَ الشَّكِّ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ فَالصَّوْمُ أَفْضَلُ، وَكَذَا إذَا صَامَ كُلَّهُ أَوْ نِصْفَهُ أَوْ ثَلَاثَةً مِنْ آخِرِهِ.اهـ. وَلَمْ يُقَيِّدْ بِكَوْنِ صَوْمِ الثَّلَاثَةِ عَادَةً وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا، حَيْثُ حَمَلَ حَدِيثَ التَّقَدُّمِ عَلَى التَّقَدُّمِ بِصَوْمِ رَمَضَانَ، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَيْهِ وَيُكْرَهُ صَوْمُهَا لِمَعْنَى مَا فِي التُّحْفَةِ فَتَأَمَّلْ. وَمَا فِي التُّحْفَةِ أَوْجَهُ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَقَدْ عَلِمْت أَنَّ مَذْهَبَنَا إبَاحَتُهُ وَمَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ كَرَاهَتُهُ وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ صَوْمًا لَهُ، وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ وُجُوبُ صَوْمِهِ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ. وَلْنَأْتِ الْآنَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِدْلَالُ الْمَذَاهِبِ لِيَظْهَرَ مُطَابَقَتُهَا لِأَيِّ الْمَذَاهِبِ. وَالْأَوَّلُ: حَدِيثُ «لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا تَطَوُّعًا» لَمْ يُعْرَفْ قِيلَ: وَلَا أَصْلَ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي ثُبُوتُ الْمَقْصُودِ وَهُوَ إبَاحَةُ الصَّوْمِ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِي: «لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَيَصُومُهُ» رَوَاهُ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ. الثَّالِثُ: مَا أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا بَقِيَ النِّصْفُ مِنْ شَعْبَانَ فَلَا تَصُومُوا» وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ، وَمَعْنَاهُ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُفْطِرَ الرَّجُلُ حَتَّى إذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ أَخَذَ فِي الصَّوْمِ. الرَّابِعُ: مَا ذَكَرَهُ مِنْ قولهِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَا أَبَا الْقَاسِمِ» وَإِنَّمَا ثَبَتَ مَوْقُوفًا عَلَى عَمَّارٍ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا عَنْهُ، فَقَالَ: وَقَالَ: صِلَةُ عَنْ عَمَّارٍ «مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ» إلَخْ وَأَصْلُ الْحَدِيثِ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ فِي كُتُبِهِمْ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَمَّارٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَأُتِيَ بِشَاةٍ مَصْلِيَّةٍ فَتَنَحَّى بَعْضُ الْقَوْمِ فَقَالَ عَمَّارٌ: مَنْ صَامَ هَذَا الْيَوْمَ فَقَدْ عَصَا أَبَا الْقَاسِمِ رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْآدَمِيِّ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ الْوَكِيعِيُّ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ. ثُمَّ قَالَ: تَابَعَ الْآدَمِيُّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ وَكِيعٍ الْخَامِسُ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ» وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَه: «فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سَحَابٌ فَكَمِّلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ وَلَا تَسْتَقْبِلُوا الشَّهْرَ اسْتِقْبَالًا». السَّادِسُ: مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى وُجُوبِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِرَجُلٍ هَلْ صُمْتَ مِنْ سَرَرِ شَعْبَانَ؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَإِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ وَفِي لَفْظٍ فَصُمْ يَوْمًا».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا فَإِنَّهُ صَوْمُ دَاوُد» وَسِرَارُ الشَّهْرِ آخِرُهُ سُمِّيَ بِهِ لِاسْتِسْرَارِ الْقَمَرِ فِيهِ، قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ السِّرَارَ قَدْ يُقَالُ عَلَى الثَّلَاثِ الْأَخِيرَةِ مِنْ لَيَالِيِ الشَّهْرِ، لَكِنْ دَلَّ قوله: «صُمْ يَوْمًا» عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ صُمْ آخِرَهَا لَا كُلَّهَا، وَإِلَّا قَالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَكَانَهَا، وَكَذَا قولهُ مِنْ سَرَرِ الشَّهْرِ لِإِفَادَةِ التَّبْعِيضِ وَعِنْدَنَا هَذَا يُفِيدُ اسْتِحْبَابَ صَوْمِهِ لَا وُجُوبَهُ، لِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِنَهْيِ التَّقَدُّمِ بِصِيَامِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَيُحْمَلُ عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ التَّقَدُّمَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، وَيَصِيرُ حَدِيثُ السَّرَرِ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُعْقَلُ فِيهِ هُوَ أَنْ يَخْتِمَ شَعْبَانَ بِالْعِبَادَةِ كَمَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ كُلَّ شَهْرٍ. فَهُوَ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ وَهُوَ خَتْمُ الشَّهْرِ بِعِبَادَةِ الصَّوْمِ لَا يَخْتَصُّ بِغَيْرِ شَعْبَانَ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ بِسَبَبِ اتِّصَالِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ بِهِ بِخِلَافِ حَمْلِ حَدِيثِ التَّقَدُّمِ عَلَى صَوْمِ النَّفْلِ، فَيُجْعَلُ هُوَ الْمَمْنُوعُ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ هُوَ الْوَاجِبُ بِحَدِيثِ السَّرَرِ، فَيَكُونُ مَنْعُ النَّفْلِ بِسَبَبِ الْإِخْلَالِ بِالْوَاجِبِ الْمُفَادِ بِحَدِيثِ السَّرَرِ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى فَتْحِ مَفْسَدَةِ ظَنِّ الزِّيَادَةِ فِي رَمَضَانَ عِنْدَ تَكَرُّرِهِ مَعَ غَلَبَةِ الْجَهْلِ، وَهُوَ مُكَفِّرٌ لِأَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا شَرَعَ كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ حَيْثُ زَادُوا فِي مُدَّةِ صَوْمِهِمْ، فَيَثْبُتُ بِذَلِكَ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مِنْ حِلِّ صَوْمِهِ مُخْفِيًا عَنْ الْعَوَامّ، وَكُلُّ مَا وَافَقَ حَدِيثَ التَّقَدُّمِ فِي مَنْعِهِ كَحَدِيثِ إكْمَالِ الْعِدَّةِ فَهُوَ مِثْلُهُ فِي وُجُوبِ حَمْلِهِ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ، لِأَنَّ صَوْمَهُ تَطَوُّعًا إكْمَالٌ لِعِدَّةِ شَعْبَانَ، وَحَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ مَوْقُوفٌ لَا يُعَارَضُ بِهِ حَدِيثُ السَّرَرِ، وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى إرَادَةِ صَوْمِهِ عَنْ رَمَضَانَ، وَكَأَنَّهُ فَهِمَ مِنْ الرَّجُلِ الْمُتَنَحِّي قَصْدَ ذَلِكَ فَلَا تَعَارُضَ حِينَئِذٍ أَصْلًا. وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ لَا يُكْرَهُ صَوْمُ وَاجِبٍ آخَرَ فِي يَوْمِ الشَّكِّ، لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ صَوْمُ رَمَضَانَ لَيْسَ غَيْرُ إذْ لَمْ يَثْبُتْ غَيْرُهُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ التُّحْفَةِ حَيْثُ قَالَ: أَمَّا الْمَكْرُوهُ فَأَنْوَاعٌ، إلَى أَنْ قَالَ: وَصَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ أَوْ بِنِيَّةٍ مُتَرَدِّدَةٍ ثُمَّ ذَكَرَ صُورَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِيهِ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ، وَعَنْ التَّطَوُّعِ مُطْلَقًا لَا يُكْرَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَكْرُوهَ مَا قُلْنَا، يَعْنِي صَوْمَ رَمَضَانَ وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ مِنْ كَلَامِ الشَّارِحِينَ، وَالْكَافِي وَغَيْرِهِمْ، حَيْثُ ذَكَرُوا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ حَدِيثِ التَّقَدُّمِ التَّقَدُّمُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ، قَالُوا: وَمُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يُكْرَهَ وَاجِبٌ آخَرُ أَصْلًا وَإِنَّمَا كُرِهَ لِصُورَةِ النَّهْيِ فِي حَدِيثِ الْعِصْيَانِ، وَحَقِيقَةُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنْ يَتْرُكَ صَوْمُهُ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ تَوَرُّعًا وَإِلَّا فَبَعْدَ تَأَدِّي الِاجْتِهَادِ إلَى وُجُوبِ كَوْنِ الْمُرَادِ مِنْ النَّهْيِ عَنْ التَّقَدُّمِ صَوْمَ رَمَضَانَ كَيْفَ يُوجِبُ حَدِيثُ الْعِصْيَانِ مَنْعَ غَيْرِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ حَدِيثِ التَّقَدُّمِ وَبَيْنَهُ، فَمَا وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ وَجَبَ حَمْلُ الْآخَرِ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ إذْ لَا فَرْقَ فِي الْمَعْنَى سِوَى تَعَدُّدِ السَّنَدِ هَذَا بَعْدَ حَمْلِهِ عَلَى السَّمَاعِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
قولهُ: (لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَظْنُونِ) وَلَمْ يَقُلْ مَظْنُونٌ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ تَتَوَقَّفُ عَلَى تَيَقُّنِ الْوُجُوبِ، ثُمَّ الشَّكِّ فِي إسْقَاطِهِ وَعَدَمِهِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ لَكِنَّ هَذَا فِي مَعْنَاهُ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ عَلَيْهِ صَوْمًا.
قولهُ: (وَهُوَ مَكْرُوهٌ أَيْضًا لِمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ إلَّا تَطَوُّعًا، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ.
قولهُ: (إلَّا أَنَّ هَذَا دُونَ الْأَوَّلِ فِي الْكَرَاهَةِ) لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ رَمَضَانَ الَّذِي هُوَ مَثَارُ النَّهْيِ.
قولهُ: (وَهُوَ الْأَصَحُّ) لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَهُوَ التَّقَدُّمُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ لَا يَقُومُ بِكُلِّ صَوْمٍ بَلْ بِصَوْمِ رَمَضَانَ فَقَطْ، وَعَنْ هَذَا لَا يُكْرَهُ أَصْلًا إلَّا أَنَّهُ كُرِهَ لِصُورَةِ النَّهْيِ: أَيْ النَّهْيِ الْمَحْمُولِ عَلَى رَمَضَانَ فَإِنَّهُ وَإِنْ حُمِلَ عَلَيْهِ فَصُورَتُهُ اللَّفْظِيَّةُ قَائِمَةٌ فَالتَّوَرُّعُ أَنْ لَا يَحِلَّ بِسَاحَتِهَا أَصْلًا. وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ الَّتِي مَرْجِعُهَا إلَى خِلَافِ الْأَوْلَى لَا غَيْرُ لَا لِمَعْنًى فِي نَفْسِ الصَّوْمِ، فَلَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي ذَاتِهِ لِيَمْنَعَ مِنْ وُقُوعِهِ عَنْ الْكَامِلِ وَلَا يَكُونُ كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، بَلْ دُونَ ذَلِكَ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ آنِفًا.
قولهُ: (وَقَدْ قِيلَ الصَّوْمُ أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِعَائِشَةَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُمَا كَانَ يَصُومَانِهِ) قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ لِأَنَّهُمَا كَانَا يَصُومَانِهِ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ، وَقَالَ فِي الْغَايَةِ رَدًّا عَلَى صَاحِبِ الْهِدَايَةِ إنَّ مَذْهَبَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ يُنَازِعُ فِيمَا ذَكَرَهُ شَارِحُ الْكَنْزِ، لِأَنَّ الْمَنْقول مِنْ قول عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي صَوْمِهَا لَأَنْ أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، فَهَذَا الْكَلَامُ يُفِيدُ أَنَّهَا تَصُومُهُ عَلَى أَنَّهُ يَوْمٌ مِنْ شَعْبَانَ كَيْ لَا تَقَعَ فِي إفْطَارِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَيَبْعُدُ أَنْ تَقْصِدَ بِهِ رَمَضَانَ بَعْدَ حُكْمِهَا بِأَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ، وَكَوْنُهُ مِنْ رَمَضَانَ احْتِمَالٌ، وَالْأَوْلَى فِي التَّمَسُّكِ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ حَدِيثُ السَّرَرِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ بَعْدَ الْجَمْعِ الَّذِي وَجَبَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ الِاسْتِحْبَابَ لَا الْإِبَاحَةَ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ سَبَبًا لِلْمَفْسَدَةِ فِي الِاعْتِقَادِ، فَلِذَا كَانَ الْمُخْتَارُ أَنْ يَصُومَ الْمُفْتِي بِنَفْسِهِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ، وَيُفْتِي الْعَامَّةَ بِالتَّلَوُّمِ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ ثُمَّ بِالْإِفْطَارِ حَسْمًا لِمَادَّةِ اعْتِقَادِ الزِّيَادَةِ، وَيَصُومُ فِيهِ الْمُفْتِي سِرًّا لِئَلَّا يُتَّهَمَ بِالْعِصْيَانِ فَإِنَّهُ أَفْتَاهُمْ بِالْإِفْطَارِ بَعْدَ التَّلَوُّمِ لِحَدِيثِ الْعِصْيَانِ وَهُوَ مُشْتَهِرٌ بَيْنَ الْعَوَامّ. فَإِذَا خَالَفَ إلَى الصَّوْمِ اتَّهَمُوهُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَقِصَّةُ أَبِي يُوسُفَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ مَنْ صَامَهُ مِنْ الْخَاصَّةِ لَا يُظْهِرُهُ لِلْعَامَّةِ وَهِيَ مَا حَكَاهُ أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: أَتَيْت بَابَ الرَّشِيدِ فَأَقْبَلَ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ وَمِدْرَعَةٌ سَوْدَاءُ وَخُفٌّ أَسْوَدُ وَرَاكِبٌ عَلَى فَرَسٍ أَسْوَدَ، وَمَا عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْبَيَاضِ إلَّا لِحْيَتَهُ الْبَيْضَاءُ، وَهُوَ يَوْمُ شَكٍّ فَأَفْتَى النَّاسَ بِالْفِطْرِ فَقُلْت لَهُ: أَمُفْطِرٌ أَنْتَ؟ فَقَالَ: اُدْنُ إلَيَّ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقَالَ فِي أُذُنِي: أَنَا صَائِمٌ، وَقولهُ الْمُفْتِي لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ الْخَاصَّةِ وَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ ضَبْطِ نَفْسِهِ عَنْ الْإِضْجَاع فِي النِّيَّةِ وَمُلَاحَظَةِ كَوْنِهِ عَنْ الْفَرْضِ إنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ.
قولهُ: (أَجْزَأَهُ لِعَدَمِ التَّرَدُّدِ فِي أَصْلِ النِّيَّةِ) وَعَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ: لَا يَجْزِيهِ عَنْ رَمَضَانَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَأَصْلُهُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَبَّرَ يَنْوِي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ يَصِيرُ شَارِعًا فِي الظُّهْرِ، وَعَلَى قول مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ أَصْلًا لَكِنَّ الْمَسْطُورَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ لَوْ نَوَى الْقَضَاءَ وَالتَّطَوُّعَ كَانَ عَنْ الْقَضَاءِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ أَقْوَى، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَنْ التَّطَوُّعِ لِأَنَّ النِّيَّتَيْنِ تَدَافَعَتَا فَبَقِيَ مُطْلَقُ النِّيَّةِ فَيَقَعُ عَنْ التَّطَوُّعِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ مَا قُلْنَا، وَلِأَنَّ نِيَّةَ التَّطَوُّعِ لِلْمُتَطَوِّعِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهَا فَلَغَتْ وَتَعَيَّنَتْ نِيَّةُ الْقَضَاءِ فَيَقَعُ عَنْ الْقَضَاءِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَقَعَ عَنْ رَمَضَانَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، لِأَنَّ التَّدَافُعَ لَمَّا أَوْجَبَ بَقَاءَ مُطْلَقِ النِّيَّةِ حَتَّى وَقَعَ عَنْ التَّطَوُّعِ، وَجَبَ أَنْ يَقَعَ عَنْ رَمَضَانَ لِتَأَدِّيهِ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَنَظِيرُهُ مِنْ الْفُرُوعِ الْمَنْقولةِ أَيْضًا لَوْ نَوَى قَضَاءَ رَمَضَانَ، وَكَفَّارَةَ الظِّهَارِ كَانَ عَنْ الْقَضَاءِ اسْتِحْسَانًا، وَهُوَ قول أَبِي يُوسُفَ.
وَفِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قول مُحَمَّدٍ: يَكُونُ تَطَوُّعًا لِتَدَافُعِ النِّيَّتَيْنِ فَصَارَ كَأَنَّهُ صَامَ مُطْلَقًا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ الْقَضَاءَ أَقْوَى لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ فِيهِ حَقٌّ لَهُ فَيَتَرَجَّحُ الْقَضَاءُ، وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ فَنَوَى النَّذْرَ وَكَفَّارَةَ الْيَمِينِ يَقَعُ عَنْ النَّذْرِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَفِي هَذِهِ كُلِّهَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَدَمِ بُطْلَانِ مُطْلَقِ النِّيَّةِ عِنْدَهُ وَصِحَّةِ النَّذْرِ لِأَنَّهُ نَفْلٌ فِي حَدِّ ذَاتِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ لَوْ بَقِيَ أَصْلُ النِّيَّةِ فِي نِيَّةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ لَكَانَ شَارِعًا فِي صَلَاةِ نَفْلٍ، وَهُوَ يَمْنَعُهُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ أَنَّهُ إذَا بَطَلَ وَصْفُ الْفَرْضِيَّةِ لَا يَبْقَى أَصْلُ الصَّلَاةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ مُطَالَبٌ بِالْفَرْقِ أَوْ يَجْعَلُ مَا ذَكَرْنَا عَنْهُ فِي الصَّوْمِ رِوَايَةً تُوَافِقُ قولهُمَا فِي الصَّلَاةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ وَحْدَهُ صَامَ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ) لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ» وَقَدْ رَأَى ظَاهِرًا وَإِنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إنْ أَفْطَرَ بِالْوِقَاعِ لِأَنَّهُ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ حَقِيقَةً لِتَيَقُّنِهِ بِهِ وَحُكْمًا لِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ وَلَنَا أَنَّ الْقَاضِيَ رَدَّ شَهَادَتَهُ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ تُهْمَةُ الْغَلَطِ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلَوْ أَفْطَرَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، وَلَوْ أَكْمَلَ هَذَا الرَّجُلُ ثَلَاثِينَ، يَوْمًا لَمْ يُفْطِرْ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ لِلِاحْتِيَاطِ، وَالِاحْتِيَاطُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَأْخِيرِ الْإِفْطَارِ وَلَوْ أَفْطَرَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي عِنْدَهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَقَدْ رَأَى ظَاهِرًا) فَصَارَ شَاهِدًا لِلشَّهْرِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ هَذَا الرَّجُلِ مِنْ عَرَضِ النَّاسِ أَوْ كَانَ الْإِمَامُ فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إذَا رَآهُ وَحْدَهُ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِالصَّوْمِ، وَكَذَا الْفِطْرُ بَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ غَيْرِهِ.
قولهُ: (وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ) لِأَنَّهَا اُلْتُحِقَتْ بِالْعُقُوبَاتِ بِدَلِيلِ عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَى الْمَعْذُورِ وَالْمُخْطِئِ.
قولهُ: (اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ) وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ: لِأَنَّ الشُّبْهَةَ قَائِمَةٌ قَبْلَ رَدِّ شَهَادَتِهِ. رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال: «الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ» فَقَامَ دَلِيلًا مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيمَا إذَا أَفْطَرَ الرَّائِي وَحْدَهُ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ تَسْتَقِيمُ الْأَخْبَارُ أَنَّ الصَّوْمَ الْمَفْرُوضَ يَوْمَ يَصُومُ النَّاسُ، وَالْفِطْرُ الْمَفْرُوضُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ، أَعْنِي بِقَيْدِ الْعُمُومِ.
قولهُ: (اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي عِنْدَهُ) فَالْحَاصِلُ أَنَّ رُؤْيَتَهُ مُوجِبَةٌ عَلَيْهِ الصَّوْمَ، وَعَدَمُ صَوْمِ النَّاسِ الْمُتَفَرِّعِ عَنْ تَكْذِيبِ الشَّرْعِ إيَّاهُ قَامَ فِيهِ شُبْهَةٌ مَانِعَةٌ مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ إنْ أَفْطَرَ لِحُكْمِ النَّصِّ مِنْ الصَّوْمِ يَوْمَ يَصُومُ النَّاسُ، وَعَدَمُ فِطْرِ النَّاسِ الْيَوْمَ الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ مِنْ صَوْمِهِ مُوجِبٌ لِلصَّوْمِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ النَّصِّ أَيْضًا، وَالْحَقِيقَةُ الَّتِي عِنْدَهُ وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ، وَكَوْنُهُ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ بِالنَّصِّ شُبْهَةٌ فِيهِ مَانِعَةٌ مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ إنْ أَفْطَرَ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَبِلَ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ وَهُوَ فَاسِقٌ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصَّوْمِ فَأَفْطَرَ هُوَ أَوْ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ، خِلَافًا لِلْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ لِأَنَّهُ يَوْمُ صَوْمِ النَّاسِ، فَلَوْ كَانَ عَدْلًا لَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ خِلَافًا لِأَنَّ وَجْهَ النَّفْيِ كَوْنُهُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ وَهُوَ مُنْتَفٍ هُنَا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ قَبِلَ الْإِمَامُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا) لِأَنَّهُ أَمْرٌ دِينِيٌّ، فَأَشْبَهَ رِوَايَةَ الْإِخْبَارِ وَلِهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَتُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ لِأَنَّ قول الْفَاسِقِ فِي الدِّيَانَاتِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَتَأْوِيلُ قول الطَّحَاوِيِّ عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ أَنْ يَكُونَ مَسْتُورًا وَالْعِلَّةُ غَيْمٌ أَوْ غُبَارٌ أَوْ نَحْوُهُ، وَفِي إطْلَاقِ جَوَابِ الْكِتَابِ يَدْخُلُ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ بَعْدَمَا تَابَ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ خَبَرٌ دِينِيٌّ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قوليْهِ يَشْتَرِطُ الْمَثْنَى وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ» ثُمَّ إذَا قَبِلَ الْإِمَامُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ وَصَامُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا لَا يُفْطِرُونَ فِيمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلِاحْتِيَاطِ، وَلِأَنَّ الْفِطْرَ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ يُفْطِرُونَ وَيَثْبُتُ الْفِطْرُ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الرَّمَضَانِيَّةِ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ بِهَا ابْتِدَاءً كَاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ بِنَاءً عَلَى النَّسَبِ الثَّابِتِ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ. قَالَ: (وَإِذَا لَمْ تَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ حَتَّى يَرَاهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ) لِأَنَّ التَّفَرُّدَ بِالرُّؤْيَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ يُوهِمُ الْغَلَطَ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ جَمْعًا كَثِيرًا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْشَقُّ الْغَيْمُ عَنْ مَوْضِعِ الْقَمَرِ فَيَتَّفِقُ لِلْبَعْضِ النَّظَرُ، ثُمَّ قِيلَ فِي حَدِّ الْكَثِيرِ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ خَمْسُونَ رَجُلًا اعْتِبَارًا بِالْقَسَامَةِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَهْلِ الْمِصْرِ وَمَنْ وَرَدَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ إذَا جَاءَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ لِقِلَّةِ الْمَوَانِعِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ، وَكَذَا إذَا كَانَ عَلَى مَكَان مُرْتَفِعٍ فِي الْمِصْرِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِأَنَّ قول الْفَاسِقِ فِي الدِّيَانَاتِ غَيْرُ مَقْبُولٍ) أَيْ فِي الَّتِي يَتَيَسَّرُ تَلَقِّيهَا مِنْ الْعُدُولِ كَرِوَايَاتِ الْأَخْبَارِ، بِخِلَافِ الْأَخْبَارِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ وَنَحْوِهِ، حَيْثُ يَتَحَرَّى فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ فِيهِ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَلَقِّيهَا مِنْ جِهَةِ الْعُدُولِ إذْ قَدْ لَا يَطَّلِعُ عَلَى الْحَالِ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ الْخَاصِّ عَدْلٌ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ خَبَرَ الْفَاسِقِ بِمُفْرَدِهِ، بَلْ مَعَ الِاجْتِهَادِ فِي صِدْقِهِ، وَلَا يُعَسِّرُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَامَّتَهُمْ مُتَوَجِّهُونَ إلَى طَلَبِهِ وَفِي عُدُولِهِمْ كَثْرَةٌ فَلَمْ تَمَسَّ الْحَاجَةُ إلَى قَبُولِ خَبَرِ الْفَاسِقِ مَعَ الِاجْتِهَادِ فِيهِ.
قولهُ: (وَتَأْوِيلُ قول الطَّحَاوِيِّ إلَخْ) الْمُرَادُ أَنَّ بِهَذَا التَّأْوِيلِ يَرْجِعُ قولهُ إلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ لَا أَنَّهُ يَرْتَفِعُ بِهِ خِلَافٌ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْعَدْلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ وَأَنَّ الْحُكْمَ بِقولهِ فَرْعُ ثُبُوتِهَا، وَلَا ثُبُوتَ فِي الْمَسْتُورِ.
وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَسْتُورِ وَبِهِ أَخَذَ الْحَلْوَانِيُّ فَصَارَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ أَمَّا مَعَ تَبَيُّنِ الْفِسْقِ فَلَا قَائِلَ بِهِ عِنْدَنَا، وَعَلَى هَذَا تَفَرَّعَ مَا لَوْ شَهِدُوا فِي تَاسِعَ عَشَرَ رَمَضَانَ أَنَّهُمْ رَأَوْا هِلَالَ رَمَضَانَ قَبْلَ صَوْمِهِمْ بِيَوْمٍ إنْ كَانُوا فِي هَذَا الْمِصْرِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْحِسْبَةَ وَإِنْ جَاءُوا مِنْ خَارِجٍ قُبِلَتْ.
قولهُ: (وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا) مِنْ أَنَّهُ أَمْرٌ دِينِيٌّ.
قولهُ: (وَقَدْ صَحَّ إلَخْ) يَعْنِي بِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ أَصْحَابِ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنِّي رَأَيْتُ الْهِلَالَ، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ يَا بِلَالُ أَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا». وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ لِرِوَايَةِ النَّوَادِرِ فِي قَبُولِ الْمَسْتُورِ، لَكِنَّ الْحَقَّ لَا يَتَمَسَّكُ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا الزَّمَانِ لِأَنَّ ذِكْرَهُ الْإِسْلَامَ بِحَضْرَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ الشَّهَادَتَيْنِ إنْ كَانَ هَذَا أَوَّلَ إسْلَامِهِ فَلَا شَكَّ فِي ثُبُوتِ عَدَالَتِهِ، لِأَنَّ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ أَسْلَمَ عَدْلًا إلَّا أَنْ يَظْهَرَ خِلَافُهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ إخْبَارًا عَنْ حَالِهِ السَّابِقِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ عَدَالَتَهُ قَدْ ثَبَتَتْ بِإِسْلَامِهِ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِبَقَائِهَا مَا لَمْ يَظْهَرْ الْخِلَافُ، وَلَمْ يَكُنْ الْفِسْقُ غَالِبًا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَتُعَارِضُ الْغَلَبَةُ ذَلِكَ الْأَصْلَ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ إلَى ظُهُورِهَا.
قولهُ: (ثُمَّ إذَا قَبِلَ الْإِمَامُ إلَخْ) هَكَذَا الرِّوَايَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ سَوَاءٌ قَبِلَهُ لِغَيْمٍ أَوْ فِي صَحْوٍ وَهُوَ مِمَّنْ يَرَى ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا إذَا لَمْ يَرَ الْهِلَالَ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ، ثُمَّ خَصَّ قول أَبِي حَنِيفَةَ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ وَالْكَافِي وَالْفَتَاوَى أَضَافُوا مَعَهُ أَبَا يُوسُفَ، وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ فِي قَبُولِهِ فِي صَحْوٍ، وَفِي قَبُولِهِ لِغَيْمٍ أَخَذَ بِقول مُحَمَّدٍ، فَأَمَّا لَوْ صَامُوا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ فَإِنَّهُمْ يُفْطِرُونَ إذَا صَامُوا ثَلَاثِينَ وَلَمْ يَرَوْا، ذَكَرَهُ فِي التَّجْرِيدِ. وَعَنْ الْقَاضِي أَبِي عَلِيٍّ السُّغْدِيِّ لَا يُفْطِرُونَ، وَهَكَذَا فِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ وَصَحَّحَ الْأَوَّلَ فِي الْخُلَاصَةِ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إنْ قَبِلَهَا فِي الصَّحْوِ لَا يُفْطِرُونَ أَوْ فِي غَيْمٍ أَفْطَرُوا لِتَحَقُّقِ زِيَادَةِ الْقُوَّةِ فِي الثُّبُوتِ فِي الثَّانِي وَالِاشْتِرَاكِ فِي عَدَمِ الثُّبُوتِ أَصْلًا فِي الْأَوَّلِ فَصَارَ كَالْوَاحِدِ لَمْ يَبْعُدْ.
قولهُ: (بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ) مُتَّصِلٌ بِثُبُوتِ الرَّمَضَانِيَّةِ لَا بِثُبُوتِ الْفِطْرِ فَهُوَ مَعْنَى مَا أَجَابَ بِهِ مُحَمَّدَ بْنَ سِمَاعَةَ حِينَ قَالَ لَهُ: يَثْبُتُ الْفِطْرُ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ فَقَالَ: لَا بَلْ بِحُكْمِ الْوَاحِدِ بِثُبُوتِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ لَمَّا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِثُبُوتِهِ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصَّوْمِ فَبِالضَّرُورَةِ يَثْبُتُ الْفِطْرُ بَعْدَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا.
قولهُ: (كَاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ بِنَاءً عَلَى النَّسَبِ الثَّابِتِ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ) فَإِنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا عَلَى النَّسَبِ فَيَثْبُتُ بِهِ مَعَ الْمُؤَيِّدِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا مُطْلَقًا، ثُمَّ يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ الْإِرْثِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ الْإِرْثُ ابْتِدَاءً بِشَهَادَتِهَا وَحْدَهَا.
فَرْعٌ:
إذَا صَامَ أَهْلُ مِصْرٍ رَمَضَانَ عَلَى غَيْرِ رُؤْيَةٍ بَلْ بِإِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوْا هِلَالَ شَوَّالٍ إنْ كَانُوا أَكْمَلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ عَنْ رُؤْيَةِ هِلَالِهِ إذَا لَمْ يَرَوْا هِلَالَ رَمَضَانَ قَضَوْا يَوْمًا وَاحِدًا حَمْلًا عَلَى نُقْصَانِ شَعْبَانَ، غَيْرَ أَنَّهُ اتَّفَقَ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ، وَإِنْ أَكْمَلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ عَنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ قَضَوْا يَوْمَيْنِ احْتِيَاطًا لِاحْتِمَالِ نُقْصَانِ شَعْبَانَ مَعَ مَا قَبْلَهُ فَإِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَرَوْا هِلَالَ شَعْبَانَ كَانُوا بِالضَّرُورَةِ مُكَمِّلِينَ رَجَبَ.
قولهُ: (يُوهِمُ الْغَلَطَ) الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ ظَاهِرٌ فِي الْغَلَطِ فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْوَهْمِ مُتَحَقِّقٌ فِي الْبَيِّنَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُكْمِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ قَبُولَهَا بَلْ التَّفَرُّدُ مِنْ بَيْنِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ بِالرُّؤْيَةِ مَعَ تَوَجُّهِهِمْ طَالِبِينَ لِمَا تَوَجَّهَ هُوَ إلَيْهِ مَعَ فَرْضِ عَدَمِ الْمَانِعِ وَسَلَامَةِ الْأَبْصَارِ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ الْأَبْصَارُ فِي الْحِدَّةِ ظَاهِرٌ فِي غَلَطِهِ كَتَفَرُّدِ نَافِلِ زِيَادَةٍ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَهْلِ مَجْلِسٍ مُشَارِكِينَ لَهُ فِي السَّمَاعِ، فَإِنَّهَا تُرَدُّ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً مَعَ أَنَّ التَّفَاوُتَ فِي حِدَّةِ السَّمْعِ أَيْضًا وَاقِعٌ كَمَا هُوَ فِي الْبِصَارِ مَعَ أَنَّهُ لَا نِسْبَةَ لِمُشَارِكِيهِ فِي السَّمَاعِ بِمُشَارِكِيهِ فِي التَّرَائِيِ كَثْرَةً، وَالزِّيَادَةُ الْمَقْبُولَةُ مَا عُلِمَ فِيهِ تَعَدُّدُ الْمَجَالِسِ أَوْ جُهِلَ فِيهِ الْحَالُ مِنْ الِاتِّحَادِ وَالتَّعَدُّدِ، وَقولهُ: لِأَنَّ التَّفَرُّدَ، لَا يُرِيدُ تَفَرُّدَ الْوَاحِدِ وَإِلَّا لَأَفَادَ قَبُولَ الِاثْنَيْنِ وَهُوَ مُنْتَفٍ بَلْ الْمُرَادُ تَفَرُّدُ مَنْ لَمْ يَقَعْ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ مِنْ بَيْنِ أَضْعَافِهِمْ مِنْ الْخَلَائِقِ، ثُمَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الَّذِينَ يُوجِبُ خَبَرُهُمْ الْحُكْمَ فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْحَالَةِ خَمْسُونَ اعْتِبَارًا بِالْقَسَامَةِ. وَعَنْ خَلَفٍ خَمْسُمِائَةٍ بِبَلْخَ قَلِيلٌ، فَبُخَارَى لَا تَكُونُ أَدْنَى مِنْ بَلْخَ فَلِذَا قَالَ الْبَقَّالِيُّ: الْأَلْفُ بِبُخَارَى قَلِيلٌ، وَالْحَقُّ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ أَيْضًا أَنَّ الْعِبْرَةَ لِتَوَاتُرِ الْخَبَرِ وَمَجِيئِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَهِلَالُ الْفِطْرِ فِي الصَّحْوِ كَرَمَضَانَ وَفِي غَيْرِهِ بِخِلَافٍ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِاثْنَيْنِ وَرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ.
قولهُ: (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَهْلِ الْمِصْرِ وَمَنْ وَرَدَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ) يَعْنِي فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَمَا عَنْ الطَّحَاوِيِّ مِنْ الْفَرْقِ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَكَذَا مَا يُشِيرُ إلَيْهِ كِتَابُ الِاسْتِحْسَانِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَشْهَدُ بِذَلِكَ فِي الْمِصْرِ وَلَا عِلَّةَ فِي السَّمَاءِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ لِأَنَّ الَّذِي يَقَعُ فِي الْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْقُيُودَ الْمَذْكُورَةَ تُفِيدُ بِمَفْهُومَاتِهَا الْمُخَالِفَةِ الْجَوَازَ عِنْدَ عَدَمِهَا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ رَأَى هِلَالَ الْفِطْرِ وَحْدَهُ لَمْ يُفْطِرْ) احْتِيَاطًا، وَفِي الصَّوْمِ الِاحْتِيَاطُ فِي الْإِيجَابِ. قَالَ: (وَإِذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لَمْ يَقْبَلْ فِي هِلَالِ الْفِطْرِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ) لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ نَفْعُ الْعَبْدِ وَهُوَ الْفِطْرُ فَأَشْبَهَ سَائِرَ حُقُوقِهِ، وَالْأَضْحَى كَالْفِطْرِ فِي هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، خِلَافًا لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ كَهِلَالِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ نَفْعُ الْعِبَادِ وَهُوَ التَّوَسُّعُ بِلُحُومِ الْأَضَاحِيِّ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لَمْ يَقْبَلْ إلَّا شَهَادَةَ جَمَاعَةٍ يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ) كَمَا ذَكَرْنَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لَمْ يُفْطِرْ) قِيلَ: مَعْنَى قول أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُفْطِرُ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ. وَلَكِنْ لَا يَنْوِي الصَّوْمَ وَالتَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ فِي حَقِّهِ لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي عِنْدَهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالِاحْتِيَاطِ يُنَافِي تَأْوِيلَ قولهِ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: إنْ أَيْقَنَ أَفْطَرَ وَيَأْكُلُ سِرًّا وَعَلَى الْقول بِأَنَّهُ لَا يُفْطِرُ لَوْ أَفْطَرَ يَقْضِي، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى فِي لُزُومِهَا الْخِلَافَ بَعْدَ رَدِّ شَهَادَتِهِ وَقَبْلَهُ، وَالصَّحِيحُ عَدَمُ لُزُومِهَا فِيهَا، وَلَوْ شَهِدَ هَذَا الرَّجُلُ عِنْدَ صَدِيقٍ لَهُ فَأَكَلَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ صَدِيقَهُ.
قولهُ: (فَأَشْبَهَ سَائِرَ حُقُوقِهِ) وَعَنْ هَذَا شَرْطُ الْعَدَدِ وَالْحُرِّيَّةِ فِي الرَّأْيِ، وَأَمَّا لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: يَنْبَغِي أَنْ تُشْتَرَطَ كَمَا تُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ وَالْعَدَدُ، وَأَمَّا الدَّعْوَى فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُشْتَرَطَ كَمَا فِي عِتْقِ الْأَمَةِ وَطَلَاقِ الْحُرَّةِ عِنْدَ الْكُلِّ، وَعِتْقِ الْعَبْدِ فِي قول أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قول أَبِي حَنِيفَةَ: فَيَنْبَغِي أَنْ تُشْتَرَطَ الدَّعْوَى فِي هِلَالِ الْفِطْرِ وَهِلَالِ رَمَضَانَ.اهـ. وَعَلَى هَذَا فَمَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّ مَنْ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ فِي الرُّسْتَاقِ وَلَيْسَ هُنَاكَ وَالٍ وَلَا قَاضٍ، فَإِنْ كَانَ ثِقَةً يَصُومُ النَّاسُ بِقولهِ، وَفِي الْفِطْرِ إنْ أَخْبَرَ عَدْلَانِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُفْطِرُوا يَكُونُ الثُّبُوتُ فِيهِ دَعْوَى، وَحُكْمٌ لِلضَّرُورَةِ، أَرَأَيْت لَوْ لَمْ يُنَصَّبْ فِي الدُّنْيَا إمَامٌ وَلَا قَاضٍ حَتَّى عَصَوْا بِذَلِكَ أَمَا كَانَ يُصَامُ بِالرُّؤْيَةِ فَهَذَا الْحُكْمُ فِي مُحَالِ وُجُودِهِ.
قولهُ: (لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ نَفْعُ الْعِبَادِ) تَعْلِيلٌ لِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَفِي التُّحْفَةِ رَجَّحَ رِوَايَةَ النَّوَادِرِ فَقَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْخَبَرِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْمُخْبِرَ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَعَدَّى مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ.اهـ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرٌ دِينِيٌّ وَهُوَ وُجُوبُ الْأُضْحِيَّةَ وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَصَارَ كَهِلَالِ رَمَضَانَ فِي تَعَلُّقِ حَقِّ اللَّهِ فَيُقْبَلُ فِي الْغَيْمِ الْوَاحِدُ الْعَدْلُ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الصَّحْوِ إلَّا التَّوَاتُرُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَوَقْتُ الصَّوْمِ مِنْ حِينِ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ) لِقولهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} إلَى أَنْ قال: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} وَالْخَيْطَانِ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ (وَالصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ نَهَارًا مَعَ النِّيَّةِ) لِأَنَّهُ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ: هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ لِوُرُودِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ زِيدَ عَلَيْهِ النِّيَّةُ فِي الشَّرْعِ لِتَتَمَيَّزَ بِهَا الْعِبَادَةُ مِنْ الْعَادَةِ، وَاخْتَصَّ بِالنَّهَارِ لِمَا تَلَوْنَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْوِصَالُ كَانَ تَعْيِينُ النَّهَارِ أَوْلَى لِيَكُونَ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ، وَعَلَيْهِ مَبْنَى الْعِبَادَةِ، وَالطَّهَارَةُ عَنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ شَرْطٌ لِتَحَقُّقِ الْأَدَاءِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ إلَخْ) نُقِضَ طَرْدُهُ بِإِمْسَاكِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ لِذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ وَلَا يَصْدُقُ الْمَحْدُودُ، وَبِمَنْ أَمْسَكَ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَذَلِكَ بَعْدَمَا أَكَلَ بَعْدَ الْفَجْرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّهَارَ اسْمٌ لِمَا مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى الْغُرُوبِ، وَعَكْسُهُ يَأْكُلُ النَّاسِي فَإِنَّهُ يَصْدُقُ مَعَهُ الْمَحْدُودُ، وَهُوَ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ وَلَا يَصْدُقُ الْحَدُّ وَهَذَا فَسَادُ الْعَكْسِ، وَجَعَلَ فِي النِّهَايَةِ إمْسَاكَ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ مُفْسِدًا لِلْعَكْسِ، وَجَعَلَ أَكْلَ النَّاسِي مُفْسِدًا لِلطَّرْدِ وَالتَّحْقِيقِ مَا أَسْمَعْتُك. وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مَوْجُودٌ مَعَ أَكْلِ النَّاسِي، فَإِنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ أَكْلَهُ عَدَمًا وَالْمُرَادُ مِنْ النَّهَارِ الْيَوْمُ فِي لِسَانِ الْفُقَهَاءِ، وَبِالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ خَرَجَتْ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ لِلصَّوْمِ شَرَفًا، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ مِنْ الْعِنَايَةِ، وَالْحَدُّ الصَّحِيحُ إمْسَاكٌ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ مَنْوِيٌّ لِلَّهِ تَعَالَى بِإِذْنِهِ فِي وَقْتِهِ وَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ مَعْنَاهُ وَهُوَ تَفْصِيلُ هَذَا.